الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th November,2005 العدد : 131

الأثنين 26 ,شوال 1426

تجربتي في كتابة الترجمة والسيرة«2/2»
د. عبد الرحمن الشبيلي

الوقفة الثانية: كان الكتاب في
مسوداته المبكرة يضم ثلاثة فصول، وكانت صياغته تتسم بالعمومية، ومعلوماته غير موثقة، ولكن ما أن انفتحت أمام المؤلف خزينة الأوراق الخاصة، وألبومات الصور التي كانت تزخر بها غرفة المقتنيات الشخصية للسفير الشبيلي، حتى تغيّرت صورة الكتاب، وتحول حجمه من فصول ثلاثة إلى ثمانية، وزادت الصور إلى عشرة أضعاف، وحظي بالكثير من الأسانيد والوثائق الخاصة، وصارت المعلومة تدل على المعلومة، والصورة توحي بالفكرة، والوثيقة تقود إلى مصادر المعلومات، وقد تعلمت من تلك التجربة أن البحث عن القرائن والدلائل والتواريخ غاية تستحق شد الرحال، مهما كانت القيمة أو كان التأخير.
وبين ما تم العثور عليه، شواهد وإثباتات أصيلة للعديد من القصص والروايات التي وردت على ألسنة رواتها، ومع ذلك فقد حالت ظروف أفغانستان والعراق في تلك الفترة وما تزال، وهما من البلدان التي عمل فيها سفيراً، دون أن يحصل المؤلف منهما على ما يخدم أغراضه.
ومن الطبيعي، أن يشكّل العثور على صورة تخدم موضوعها، وتوضع في مكانها المناسب في الكتاب، سعادة لا توصف لأي مؤلف، وأن ترد قصة في ثنايا الروايات وقد مضى على حدوثها نصف قرن، ثم يجد الباحث بين أوراق شخصية الكتاب ما يؤكد تفاصيل الواقعة وشخصياتها وتواريخها، وأن تحتل صورة مكاناً بارزاً في إخراج الكتاب، ثم يجد مؤلفه، والكتاب ماثل للطبع، من يعرّف باسم صاحبها، فهي مواقف تمثل متعة في عالم مؤلف السير والتراجم لا يقدر مدى الإحساس بها إلا من مرّ بها أو جرّبها، بل إن استذكارها، مع مضي الزمن، لا يقل نشوة وإسعاداً عن تذكر مطاردة قنص عاشها هواته.
الوقفة الثالثة: وهي تتصل بضرورة إلمام المؤلف بخلفية الموضوع،
وبالمعلومات التاريخية المتعلقة به، وبالشخصيات الواردة فيه، إذ لا أتخيل مؤلفاً يمكنه أن يكتب عن شخصية لا يعرف عنها إلا القليل، فضلاً عن أن يكون قد تأثر بها أو تشبعّ بمعرفتها أو تفاعل معها من قبل، وإن من نافلة القول: إن أفضل أنواع الكتابة وأكثرها صدقاً وبلاغة هو ما يصدر عن عاطفة، مهما بلغ احتراف المؤلف وقدرته على الصياغة والتعبير.
وما من شك في أن القراءة المكثفة في الموضوع الذي يراد التأليف فيه، وزيارة المواقع التي سيتم التطرق إليها، والالتقاء مراراً مع الشخصية التي سيكتب عنها، هي بعض الوسائل التي تعزز من قدرة الكاتب على استيعاب موضوعه وإجادة الكتابة فيه.
الوقفة الرابعة: وتتحدث عن مرحلة يمكن تسميتها: مرحلة التدقيق
والمقارنة، إذ لا بد لكل مؤلف في موضوع ذي صلة بالتاريخ، ألا يأخذ مأخذ التسليم كل ما يقع عليه ناظراه من معلومات دون أن يعرضها للتحقيق والمقارنة، فضلاً عن ضرورة أن يراجع مسوداته ويقارن بين تواريخ تخص واقعة بعينها وردت في مواضع مختلفة من كتابه، حتى لا يحصل تنافر في الكتاب نفسه.
إن المعلومات الخطأ التي ترد في بعض الكتب، لا تشوه الكتاب نفسه بقدر ما تربك الكتب والأبحاث التي تبنى عليه، وما لم يقم الناقل بالتثبت من كل معلومة ينقلها، فإن الخطأ قد يتراكم، ويصبح جرثومة (فيروساً) يلوّث جميع ما يصدر بعده من كتب أو نقولات.
كنت ذات مرة أقرأ في رسالة قديمة حررها أحد الأشخاص الذين ألفت عنهم، وكان يتحدث فيها عن موضوع يفهم منه أنه يتعلق بوفاة الملك خالد وتولي الملك فهد مقاليد الحكم في البلاد، وبالعودة إلى أحد الكتب الإعلامية التي صدرت عن تلك المناسبة للتثبت من التاريخ، تبين أن خطأ مطبعياً في تلك السنة (1402هـ) قد وقع في الكتاب الإعلامي نفسه، ولم يكن مؤلفه قد اكتشفه قبل تلك المقارنة.
وفي مثال آخر، تضمن كتاب عن تطور الحكم والإدارة في المملكة، صدر عام 1385هـ(1956م)، معلومات تشير إلى أن وزارة الإعلام قد أُنشئت استناداً إلى الأمر الملكي رقم (43) الصادر عام 1381هـ (1961م)، وبتحقيق ذلك، اتضح أن المستند المذكور لا يمت إلى الموضوع بصلة، وأن الأصح هو - ما عاشه معظمنا - أمر ملكي آخر صدر برقم (57) في العام الذي تلاه، وهو ما أُثبت في كتابي عن تاريخ الإعلام السعودي الصادر عام 1421هـ (2000م)، لكن أحد كتب السيرة حديثة الصدور رجّح الرأي الأول لأسبقيته، دون التثبت من دقته.
ومن اللافت للنظر، أن هناك العديد من السير والتراجم التي صدرت في المملكة، وهي تمتلئ بالمعلومات الجديدة والموضوعات الأصيلة الجيدة، لكنها لا تُسند بتواريخ أحداثها، ولا تختم بالفهارس والكشافات التي تساعد الباحث والقارئ على تحديد مواضع المعلومات عند العودة إليها، وفي ظني أن توثيق التواريخ وتكشيف المعلومات، هما أهم عناصر الكتابة التاريخية، ويمثلان عصب التأليف في مجال السير والتراجم، ودليلاً على تمكّن الكاتب ومثابرته وجدّيته في البحث والتنقيب.
الوقفة الخامسة: وتتناول مرحلة النقد والتقويم، وهي مرحلة لا
يوليها بعض المؤلفين ما تستحقه من اهتمام، مع أنها يمكن أن تكشف لهم عيوباً لا يكون في مقدور المؤلف أن يكتشفها بمفرده، وقد قيل فيما مضى: إن المؤلف يقرأ نفسه، وبالتالي فقد يمر عليه الخطأ المطبعي وغيره دون أن يلحظه.
ولعل أفضل طريقة لنقد الكتاب وتقويمه قبل طبعته النهائية أن يعقد المؤلف ندوة للمتخصصين في موضوعه، أو لمجموعة من النقاد المحتملين لمعرفة آرائهم في مسوداته الأخيرة، فقد تكفل هذه الخطوة تخفيف الملحوظات التي تبدى على الكتاب فيما بعد (وقديماً قيل: من ألف فقد استهدف).
وهنا ينبغي على المؤلف ألا يتأفف من أي رأي، ولا يتذمر من التأخير، أو من كثرة التعديلات وإعادة الصياغة، فالتصويبات التي ترد إليه قبل الطبع تفضُل بمراحل ما يتلقاه بعده، وخير له أن يتلمس عيوب كتابه قبل الصدور من أن يُلفت نظره إليها بعد فوات الأوان، وعندما يحظى المؤلف بمساعدة من محترف في التصحيح والمراجعة والصياغة، أو عندما يكون هو نفسه مؤهلاً لذلك، فإنها قمة الحظ في عالم الكتابة والتأليف، وإن ما يقضيه المؤلف من جهد ووقت في هذه المرحلة خير وسيلة لاتقان العمل وتحري كماله وضمان تميّزه، ودليلاً على احتراف المؤلف وثقته بنفسه.
إن كل ما أصدرته حتى الآن من كتب في مجال الإعلام أو في مجال السير، قد استغرق ما بين عشر إلى خمس عشرة مسودة (بروفة) طباعية، مارست فيها أقصى درجات المراجعة والتمحيص الممكنة، ومع ذلك فلم يخل واحد منها من الأخطاء بأنواعها.
الوقفة السادسة: هل يمكن الحكم على ما يكتبه كاتب السير
والتراجم بالموضوعية والحيدة؟ أو بعبارة أخرى: هل تتوافر شروط النزاهة في كل ما يكتبه مؤلفو التراجم؟
أستطيع القول: إن من الصعب على أي كاتب سيرة المحافظة على ذلك، خاصة إذا ما كان اختياره للأشخاص مبنياً على الإعجاب المسبق بهم، وأضيف: إنه ما لم تعرض كتابات السير على المعايير العلمية وتطبق عليها، فإن من غير المحتمل أن يحافظ كتاب السير على موضوعيتهم وحيدتهم في كتابات أعدت للأغراض الإعلامية، أو لاستكشاف جوانب التميز في الأشخاص، وإن أحرى ما قد يلتزمون به هو موقف الاعتدال في الطرح، وتجنب المبالغات في الثناء والألقاب.
السؤال الثاني الذي يرد في هذا المقام، هو عن مدى تقبّل تلك الشخصيات لما يُكتب عنهم، خاصة أن الكثيرين قد لا يعرفون محتوى تلك الكتابات قبل نشرها، وهو ما يتم في الغالب مع معظم ما كتبت، ولعل في استشارة المحيطين بالشخصيات المترجم لها ما يضمن دقة المعلومات الواردة فيها، وضمان رضا صاحب الشأن عما ورد عنه من معلومات.
الوقفة السابعة: وتتصل - باختصار - باشكالية ما يواجهه بعض
كتب السير والتراجم في بلادنا خاصة، من بعض الحساسيات الاجتماعية، نتيجة إيراد كلمات أو معلومات أو قصص قد تثير النعرات القبلية والإقليمية، وربما يلحق بها مسألة الدخول في قضية الأعمار وأمثالها، وهي أمور يحتاج التطرق إليها كثيراً من الحذر والحيطة، فلقد تسببت إثارة مثل هذه الموضوعات في إيقاف العديد من مؤلفات السير والتراجم حتى بعد فسحها وتداولها.
الوقفة الثامنة: وإن من عوامل التشويق في مثل هذه الكتابات، هو
التوسع فيما يمكن تسميته عنصر (الشخصنة)، وهو الغوص في أعماق الشخصية، والتطرق في السياق نفسه إلى أسماء شخصيات أخرى ذات عاقة بالشخصية الرئيسة.
لقد سبق الإخوة من كتاب الحجاز، قديمهم وحديثهم، إلى الأخذ بهذا العنصر والاهتمام به، حتى لا تكاد مقالة أو كتاب سيرة تخلو من الحديث عن مأكل الإنسان، وعن رفاقه، وعن اهتماماته الأسرية، وعن الاتيان بأسماء من حوله من أقاربه، مع رفع الكلفة عند الكتابة عن الدواخل النفسية والإنسانية، فمتى توافر عنصر (الشخصنة)، وهو أمر أساسي في كتابة السير، ضمن عوامل الظرف والتشويق وسهولة العبارة والإيجاز، فإنها - في ظني - مدعاة لإمتاع القارئ وجذبه وارتياحه.
وبعد: هذه، في الواقع، خلاصة تجربة متواضعة امتدت اثني عشر عاماً، من الانشغال في فن لم يكن لي سابق خبرة فيه أو دراسة أو تخصص، ومن الطبيعي أن تكون عرضة للنقد واختلاف الرأي، خاصة إذا عرفنا أن تلك التراجم - على تباين أصنافها - قد التزمت منهجاً مبسطاً في الأسلوب، يجتذب القارئ العادي، لكنه يتحرر من وثاق البحث العلمي المتشدد.
ومع تواضع هذه التجربة القصيرة التي مررت بها، والتأكيد على أنها لا تتعدى الهواية ولا تدخلني بين المؤرخين، فلقد اتخذت المحاولات التي قمت بها للكتابة في السير قوالب وأنماطاً فنية مختلفة، لكنها - بأية حال من الأحوال - لم تأخذ الشكل التقليدي لكتابة السير، التي تبدأ عادة بمكان الولادة وتاريخها ثم بسرد المراحل العلمية والعملية وعدد ذريته وتنتهي بذكر تاريخ وفاته، بل نحت منحى متحرراً يركز في بدايته على أبرز ملامح الشخص أو خصاله وما هو معروف أو مجهول عنه، وغالباً ما توضع المعلومات البيوغرافية في نهاية المقال أو البحث، وهناك سيرُ أخذت نمط استعراض عمل فكري قام به، وذلك كما حصل عند استعراض سيرة خليل الرواف وابراهيم الحسون، وعلى كل حال، فإنه عندما يأتي الأمر إلى تقويم منهج الكتابة ونقد اسلوبها فإنه شأن ينبغي أن يصدر من غير كاتبها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


* ألقيت في مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية بمدينة سكاكا في منطقة الجوف يوم الخميس 15-10-1426هـ (17-11-2005م).

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved