الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th November,2005 العدد : 131

الأثنين 26 ,شوال 1426

شجرة الطفولة.. غابة الأدب «1»
د. صالح زيَّاد

الطفولة بوصفها معنى وليس مرحلة معينة في عمر الكائن على اتصال وثيق بالفنون إجمالاً ولا سيما الشعر والسرد. أليس الفن في الصميم لعباً وحلماً وخيالاً واكتشافاً؟!. ألا يمتهن الشاعر، بحسب قاسم حداد، مخاطبة الطفل الكامن في اللغة؟!. وما الطفولة إن لم تكن فضاء الدهشة وبكارة المعرفة والتجربة؟!!.
حين نتأمل، ومن موقع عقلاني، الأفواه الفاغرة لدهشة الشعر، أو المذهولة أمام لوحة، أو المتحيرة بلذة ولوعة القارئ لقصة أو المشاهد للدراما... نكتشف الطفل الكامن فينا، الذي نحتاج فقط إلى من يفتح له نافذة الاطلال والتبلور، أي إلى من يوقظه ويشعل مصباح عينيه ورهافة وعيه الإنساني. وليس ذلك غير عبقرية الإبداع التي تهيئ لنا زمناً خارج مألوفنا المضجر وعادات موتنا اليومي وبلادتنا المتسلطة!!.
الطفولة هي الحواس الجديدة التي تلامس الواقع للتو فترى ما لا تراه حواسنا الشائخة وذاكرتنا البالية. أن تكون طفلاً يعني أن ترى الأشياء للوهلة الأولى، أن تتحدث وتسمع وتلامس للوهلة الأولى، فتشعر ليس فقط بما لا يشعر به غيرك، بل وبما لم تشعر به أنت من قبل، وذلك تماماً هو عمل الإبداع الفني.
لم تكن الطفولة، كوظيفة مرادفة للفعل الفني بمستوياته وأجناسه المختلفة، قيمة بارزة في الفلسفة الفنية والفكر النظري فحسب، بل بدت من غير طريق، وبأكثر من فرضية، علة تفسيرية وأفق فهم نظري يطال الدوافع الإبداعية من جهة المؤلف الفني والكوامن الخفية للذة التلقي ومدارها الاختياري الذي هو بالضرورة حالة ديموقراطية محكها فردي، ومعيارها الصدق مع الذات في أقصى مدى للانعتاق من أسر التوجيه والإكراه والرقابة.
أرسطو في القول بالمحاكاة، كماهية للفن، كان يفسر دافعية فعلها وموجبات لذتها بما هو فعل طفولي ينطوي الراشدون على سببه الذي يجعل في أعماق كل منهم طفلاً يكتشف بالمحاكاة وفيها ويستطلع ويكتسب معارفه الأولية بحب ورغبة غريزية. أن المحاكاة، كما لا بد أن نفهم عن أرسطو، فوق العقل وقبله، فهي غريزة Instinct أي أنها أولاً: ليست ناتجاً عن تجربة أو تربية أو تفكير، وهي بهذا على اتصال تكويني بالطفولة كنشاط ومعنى ووظيفة.
لدى الرومانسيين أخذت دافعية الفن وموجبات لذته شكلاً تفسيرياً يحيل أيضاً إلى الطفولة كنشاط ومعنى ووظيفة، لكن من زاوية الذاتية والتعبير التي تكتسب فيها التلقائية وتقديس البدائية والسذاجة والطفولة مجداً صارخاً، فالخضوع للحس والخيال، وليس للعقل، والتفكير العاطفي الأسطوري، هو ما جعل البدائيين بطبيعتهم شعراء، والشعر، في نظر فيكو، سابق على النثر.
وجذور ذلك كامنة في اتجاه نزعات النقد الألماني، وخصوصاً كانت (ـ1804م)، إلى القيمة الذاتية للفن، بحيث يراه الناقد من حيث هو فن، ليشتق شيلر (ـ1805م) من هذا التصور فكرته في أن الفن نتيجة (دوافع اللعب) أي أنه لعب حر ينشط فيه نوع من الجهد الإنساني دون دافع خارجي، وتذهب المقارنة، هنا، مباشرة مع الطفل بحيث لا نجد فارقاً بين وظيفة الفن واللعب وخصوصاً من الناحية السيكولوجية، إذ تتوفر خصائص العمل الفني على تمامها في اللعب.
وقد أمعنت الرومانسية في استيحاء وتقصي الجوانب الطفولية في الفن على النحو الذي جعل جوديث بلوت Judith Plotz يصنع كتاباً بعنوان دال، هو (الرومانسية ومهنة الطفولة) Romanticism and the Vocation of Childhood عارضاً فيه الدور المعياري الذي لعبته الطفولة في الأدب، ونظرة الرومانتيكيين إلى الطفل بوصفه إنساناً نموذجياً متصلاً جوهرياً بالطبيعة، ومغالاة الرومانسية في اعتبار الطفولة فوق الرشد، بالإحالة إلى سلوكيات عدد من أبرز الشعراء الرومانسيين ومقولاتهم، ولا سيما مقولة وردزورث الشهيرة: (الطفل أبو الرجل).
وقد امتد الخط البياني للرومانسية ليصل إلى الذروة في الرمزية والسريالية خاصة، حيث تقوى الدعوة إلى الشعر البدائي، وإلى استقلال الوجود الفني، ونقرأ مثلاً توصيف لغاستون باشلار (- 1962م) عن الشاعر رامبو (1891م) يقول فيه: (شعر غريب يكتم في الحين نفسه المعنى الواضح والحدس الخالص، لا تعليمية ولا تطفلن، الطفولة بطبيعتها، الطفولة وأصل الكلمة).
ولا تكاد تختلف الطروحات النظرية القادمة إلى النظرية الأدبية من علم النفس أو علم اللغة في تعزيز الصلة بين نشاط الطفولة ومعناها والنشاط الفني والأدبي، ففرضية كارل يونج (ـ1961م) عن (النماذج البدائية) من حيث هي نوع من الشخصيات، أو نمط من السلوك، أو شكل من أشكال القص، أو صورة، أو رمز، يعكس نمطاً بدائياً وعالمياً ويجد استجابة لدى القارئ، لا تتضمن الإحالة إلى الطفولة في الفن والأدب، فقط، من خلال الصفة البدائية لها بما فيها من لا معقولية ولا وعي، أي بما فيها من تجاوز للتربية والتجربة والتفكير، ولا بما يحمله الإبداع الفني المستمد منها من وظيفة كشفية ومدلول جمعي إنسانياً كما هو حال الطفل، بل لأن الطفل هو أحد أبرز نماذج (التحول) التي تشتغل عليها الأعمال الأدبية في مقابل ما يصفه يونج بالشخصي من النماذج البدائية.
ومكرورة الطفل في الأساطير والفنون والفلكلور... الخ، هي في نظر يونج ذكرى أثرية باقية لطفولتنا.. إنها تمثل كون النموذج الأعلى صورة تنتمي إلى الجنس البشري كلّه لا إلى فرد، مظهر الطفولة في النفس الإنسانية. وهي لا تستحضر، فقط، شيئاً كان يوجد في الماضي البعيد ولكنها أيضاً تصور شيئاً يوجد الآن، فهي تعوض أو تعادل تطرفات العقل الشعوري وأحادية اتجاهه.
وإلى جانب ذلك فإن إحدى السمات الأساسية لمكرورة الطفل هي مستقبليته، إذ الطفل، دوماً، مستقبل كامن.
أما في الفكر اللغوي الحديث فنجد التعويل على حقيقة اللغة من حيث هي - كما يقول كارل فوسلر- (نشاط روحي خلاق)، ومن ثم إعادة التفكير في مقولة الوضع التي يغدو فيها للفكر وللمعنى وجوداً خارجياً سابقاً على الكلمة، في حين تظل الأشياء مبهمة إلى أن نسميها، وتبقى الأفكار في حكم المجهول، أي في صفة العدم، حتى تصوغها الكتابة والقول، وما أدى إليه هذا التصور من فهم جديد للعلاقة بين الوعي الإنساني واللغة على أساس من التطابق، فلكل لغة طريقتها في رؤية العالم وتصور الحقائق، الذي يُوجِد الوعي بالذات وبالعالم هو تسمية الأشياء.
هذه الحقائق عن اللغة هي ما يمنح الطفولة من حيث هي معنى وفعل أهمية البرهان، ليس على أن نفهم ماهية اللغة وحقيقتها فقط، بل لنفهم ماهية الأدب والفن من حيث هو مركب لغة تأخذ جوانب جوهرية من لغة الطفل ومن طفولة اللغة، أي الكينونة في ذلك المستوى الذي يتناول اللغة لا على أنها مادة جاهزة من قبل، بل على أنها مادة ممكنة، ولذا يقول هايديجر (ـ1976م) عن الشعر: (الشعر هو اللغة البدائية للشعوب والأقوام، وإذن، فيجب خلافاً لما قد يتوهم، أن نفهم ماهية اللغة من خلال ماهية الشعر).
ان نعي هذه العلاقة بين الطفولة والأدب يعني أن نقدّر دور الأدب في أن يفتح لبصيرتنا وقائع إدراك أفسدها الالف، وأن نستشعر مقدرات كينونتنا الإنسانية في صياغة وخلق المعنى، بعد أن فقدنا حس الطفل وخياله اليقظ.
يقول توفيق الحكيم:
(أما نحن الكبار فقد ضاعت منّا القدرة على الحياة في (المعنى)، ولم نعد نستطيع العيش إلا في (المادة)!. وقد انكمشت الحقائق في نظرنا، فلم نعد نبصر غير حقيقة الإطار الخارجي للأشياء، ولم يعدّ في مقدورنا أن ننفخ الروح في شيء؟. لا بد لنا إذن من فنان - وما الفنان إلا إنسان احتفظ ببعض قوى الطفولة - ينسج لنا أوهاماً وأخيلة وصوراً، توسع لنا قليلاً من أفق حياتنا المادية الضيقة).


Zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved