Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
فضاءات
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 

رعاة العزلة..
شهادة في شعر الثمانينيات 2 - 3
سعد البازعي

 

 

(أشرت في نهاية الجزء الأول من هذه الورقة إلى مقولة نقدية غربية تتضمن أن الشعراء ينتجون ما لا يفهمون بينما النقاد يفهمون ما لا ينتجون).

وأتابع هنا فأقول: إنني الآن وبعد مرور كل تلك التجارب أراني أستعيد تلك المقولة لأتساءل عن موقع الجمهور، أو من اعتدنا أن نسميهم المتلقين: ألم يكونوا في معظم الأحيان خارج الدائرتين، دائرتي الانتاج والفهم، فهم لا ينتجون ولا يفهمون، لا لعدم قدرة على الفهم غالباً، وإنما لأن الناقد الذي كان يفترض فيه أن يعرب ما استعجم لم يتردد أحياناً في زيادة العجمة عجمة ليزيد من ثم عزلة الشعر والنقد معاً.

صحيح أن جزءاً من المشكلة يعود إلى الجزء الثاني من المحاورة الشهيرة بين أبي تمام ومنتقديه، أقصد قوله لمنتقده: لم لا تفهم ما يقال؟ لكن الجزء الأول، الجزء الذي طالما رفض ونسي، (لم لا تقول ما يفهم؟) سيظل عالقاً في الأذهان.

إن الغموض ساحة كثيرة المزالق وليس داخلوها مقتصرين على (التمّاميين) العميقي الدلالات، المتمكنين من فنون القول الشعري: هي ساحة تضج أيضاً بكل من عجز عن التوصيل، وكل من ليس لديه ما يستحق أن يوصل، وكل من ظن أن الطريق الأسهل إلى قمة الأولمب الشعرية هي أن تكتب نصاً لا يكاد أحد يفك مغاليقه.

في أواسط الثمانينيات الميلادية، وهي الفترة التي ظهر فيها من عرفوا بشعراء الحداثة في هذه البلاد، طلب مني ملحق إحدى الصحف أن أكتب قراءة لمواد العدد السابق، وكان من بين قصائده قصيدة محمد الثبيتي (التضاريس)، التي نشرت فيما بعد في ديوان بالاسم نفسه.

ومع أنني دهشت لمستوى النص، فإنني وجدت فيه ما يستغلق على الفهم ووجدت أيضاً من الجرأة ما يكفي للاعتراف بأنني لم أفهم تلك المقاطع المستغلقة. ومع أنه أسعدني في حينها أن يثني على جرأتي شاعر وناقد بحجم الأستاذ محمد العلي، فقد كنت في حقيقة الأمر أستمد الكثير من تلك الجرأة من موقعي الأكاديمي وتأهيلي بوصفي متخصصاً في أدب غربي حديث كنت أعلم أنه بسبب معرفتي له لم يكن هناك من يستطيع أن يشكك في قدرتي على فهم الشعر الحديث. فالذي درس إليوت وباوند وأودن واستوعب أعمالهم ليس من يتهم بالعي في الفهم فيقال له ما قاله أبو تمام: (لم لا تفهم ما يقال؟).

لكن من الآخرين من ربما آثروا عدم الاعتراف بتلك الصعوبة لأسباب أخرى، ولربما وجدوا تخريجات لما قرؤوا، كما وجدت في أحيان أخرى كثيرة.

ومع أن من الظلم الشديد أن يقلل من مرحلة الثمانينيات على مستوى الإبداع الشعري، فقد كانت بحق فترة إبداع ذهبية بكل المقاييس، فإن من سوء القراءة أيضاً أن نتجاهل الإشكاليات الثقافية التي صاحبتها والتي أدت في تقديري إلى عزلة الشعر، أو لعلي أكون أكثر دقة لو قلت زادت عزلته.

فقد ترافق مع التطورات الشعرية آنذاك شعور بأن على الحركة الشعرية في المملكة أن تكون في مصاف الحركات الشعرية العربية التي كان الشعراء السعوديون يتابعونها بتمعن ويعجبون بكثير من رموزها.

وكان من الواضح أن الحركة الشعرية العربية كانت بدورها تنأى إلى حد كبير عن النزعة الشعبية محاولة الالتحاق بحركة الشعر الأوروبي بوصفه هو الشعر العالمي، سواء كان فرنسياً في المقام الأول بالنسبة للبنانيين والمغاربة أم إنجليزياً بالنسبة للمصريين والعراقيين والسودانيين.

كل ذلك بات اليوم من التراث النقدي المعروف الذي لا يكاد يحتاج إلى توثيق. لكنه بالتأكيد بحاجة إلى تذكر للتأمل في الواقع الذي وصل إليه الشعر بعد عقدين.

وأحسب أن تجربة الثمانينيات الشعرية في المملكة ليست غريبة أبداً على تجارب شعرية عربية مجاورة سواء تقدمتها بسنوات أو تأخرت عنها بسنوات. سنجدها، أو نجد ما يشبهها، في تونس وفي المغرب، مثلما سنجدها في دول الخليج ولبنان ومصر. لقد تحول الشعراء إلى رعاة للعزلة، والمجاز من أحد شعراء تلك المرحلة، الشاعر الأردني أمجد ناصر، وكان ذلك نتيجة تحولات ثقافية داخلية وخارجية معاً، تحولات كان أحد مصادرها ت. س. إليوت حين قال في فترة مبكرة من القرن الماضي إن الشعر في هذا العصر لا بد أن يكون صعباً. يقول أمجد ناصر في بعض أسطر قصيدته (رعاة العزلة) مشيراً إلى نفسه أو من يشبهه من الشعراء: (وقليلاً ما أقام في الوضوح فهو مشرد في الألفاظ وفي الغمام الذي يرعى أعشاب الكتف، وملتبس في المعاني...)

هذه النغمة (الشعار)، هذا الالتباس في المعاني، هو ما ردده غير شاعر سعودي إبان الثمانينات. من أولئك الشاعر محمد عبيد الحربي في قصيدة نشرت عام 1984 وضمنها ديوانه الأول (الجوزاء) عنوان القصيدة (دمنا اليومي)، والدم لمن يألف شعر تلك المرحلة ليس في السعودية وحدها وإنما في أقطار عربية أخرى، مفردة تتكرر لتشير أحياناً إلى الهوية أو الذات وما يتفرع عنها كالشعر.

فالدم المسفوح هو الشاعر القتيل المنتهك، أو هو الشعر نفسه في إحدى حالاته أو دلالاته. يقول الحربي عن ذلك الدم إنه غامض كالأساطير، واضح كالعصافير، هو (حجر الفلاسفة) وفلسفة الشعراء.

لينتهي إلى أنه: (قد تنثني أطراف هذه الأرض، قد تنكسر، لكنه يبقى (عالياً) فينا، فيما نكيفه ونكتبه، وفيما ينحت منا يومنا).

لقد نشرت قصيدتا أمجد ناصر ومحمد عبيد الحربي في سنة واحدة، ولربما كانتا قد كتبتا في العام نفسه، ومن يعرف الشاعرين يدرك أنهما اشتهرا في المقام الأول من خلال قصيدة النثر التي أصدر فيها ناصر أكثر من مجموعة بينما لم يصدر الحربي سوى مجموعة واحدة، هي (رياح جاهلة) (1993)، لكنه يعد من روادها في السعودية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة