Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
فضاءات
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 

تلويحة هي كل شيء
راشد عيسى

 

 

ليس تركي علي الربيعو، بالنسبة لي، أكثر من تلويحة يد، ذلك أن تلك التلويحة كانت تقريباً اللقاء الوحيد الذي يجمعني به مراراً. ولعل تذكّر مجموع تلك اللقاءات، التلويحات يشكّل مشهداً سينمائياً لطيفاً، إذ أستعرض الآن الشوارع كما لو أن الشوارع نفسها أصبحت تلويحة يد. غير أني أستعيد أيضاً مشهداً، لقاءً أول، إلى طاولته في مقهى الروضة وسط دمشق، كان الصوت بدوياً وطاغياً، ولا يكف عن الهرج والضحك، ولم يطل الوقت حتى تعرفت به صوت الربيعو الذي كنت سمعت عنه قبل أن أقرأ اسمه في الكثير من الصحف، كان صوته مغرقاً في البداوة، في مقهى كان يعجّ برموز المدينة. لافت هنا بالطبع أن كثيرين يتحدثون عن الربيعو وحضوره الشخصي أكثر من الحديث عن كتاباته التي تكاد لا تعدّ، إذ طالما وجد فيه أصدقاؤه وزملاؤه صديقاً ودوداً وطيباً وكريماً وحكواتياً ممتعاً، الأمر الذي هيأ الجميع لحوارٍ محب ومديد مع الربيعو، مع أفكاره وكتاباته.

اللافت، بالنسبة لي، أكثر من أي شيء آخر، ما قالته شهادات عن زمالة الربيعو الكاتب والمفكر، للشاعر والروائي السوري الكردي المغترب سليم بركات في مدارس الطفولة، حيث كلاهما يتحدران من المدينة الواقعة على حافة الغبار والوحل في أقصى الشمال السوري، القامشلي للربيعو، وقامشلو لسليم بركات. إنه لقاء معبّر ولا شك، وافتراق أشدّ تعبيراً وتكثيفاً. كان من المعتاد أن يشبّ الفتى العربي البدوي المسنود بنظام القبيلة عروبياً مغالياً في انشداده إلى قوميته في منطقة تتجاور فيه القوميات والأديان والمذاهب، وهذا هو حال الربيعو، ولكن كان من غير العادي أن ينشدّ الفتى الكردي، وهو المطرود من النظام ومن المؤسسة والهوية وحتى من مفردات العيش العادي، ومن هواء القومية المجاورة، وهذا هو حال بركات، كان غريباً أن يأخذ الفتى الكردي قضيته ويمضي محارباً شرساً في صفوف المقاومة الفلسطينية. إذاً فقد التقى الرجلان، اللذان ينتميان كل إلى قومية، عند القضية الفلسطينية جوهر القومية العربية. ولكن ما أن خفت بريق القضية، وتغيرت أحوال المنطقة، خصوصاً بعد سقوط نظام صدام، حتى عاد كلُّ إلى موقعه؛ الكردي إلى كرديته، والعربيّ إلى عروبيته. لقد تخطى الكردي ظلم العروبة لقوميته، لكن العروبيّ لم ينتبه، وهنا يكمن جوهر الانتقادات التي دارت حول الربيعو، حيث دارت معارك صحفية ساخنة بين الربيعو ومثقفين أكراد.

لكن ميزة الربيعو في حياته وكتابته أنه يقبل الجدل والاختلاف ويؤمن بحرية القول، ما يجعل أصدقاءه اليوم يؤمنون بأن الاختلاف مع الربيعو هو جزء من احترام الكتابة وحرية التفكير، جزء من احترام الكاتب الراحل، ولذلك كان أصدقاؤه من أشدّ محاربيه الفكريين، وأيضاً من أشد المعجبين بصداقته ومودته وكرمه وحتى بداوته التي يصرّ على التشبّث بها وهو في قلب المدينة. البداوة التي كانت بالنسبة لي تلويحة يد خارجة عن مألوف الأطقم الرسمية وربطات العنق والصوت الخفيض. تلويحة تحب الناس، تلويحة هي كل شيء.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة