Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
مداخلات
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 

حول بنى التفكير والنقاء المنشود
كيف تؤثر اللغة وما مشكلة تنميطها؟

 

 

شارك الدكتور فالح العجمي رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود بمحاضرة فكرية - لغوية الأسبوع الماضي ضمن الموسم الثقافي لنادي المدينة المنورة الأدبي، وكان موضوع المحاضرة (بنى التفكير والنقاء المنشود)، وكانت هذه المحاضرة من الأنشطة المنبرية القليلة التي تلامس قضايا فكرية على جانب من الأهمية. وكان مدار البحث في هذه المحاضرة حسبما فهمت، وأرجو أن ألا أكون قد تلقيت الموضوع على منحى التبسيط، إذ كنت من جملة الحضور - هو كيف تؤثر اللغة على أنماط التفكير السائدة في المجتمع، وبعبارة أخرى كيف تؤسس اللغة وتؤطر ملامح بنية التفكير أو كيف ترسم معالم خارطة التفكير لدى أهلها. وقد تناول المحاضر المحاور والمرتكزات الرئيسة للموضوع بقدر ما سمح له الوقت المحدود، واستعان بآراء جملة من علماء اللغة الأكاديميين في مجال تأثير اللغة في الفكر وفي تشكيل بعض معالم أو ملامح الثقافة المهمة، ثم أورد المحاضر جملة من الأمثلة من عالم اللغة العربية وعوالم ولغات وشعوب أخرى، وكانت هذه الأمثلة ترتكز على قضية الصور النمطية عن الآخر التي تسهم اللغة في ترسيخها في ذاكرة الشعب وفي عقله الباطن، وتجعله ينظر إلى الآخر المحيط وإلى العالم من حوله بناء على هذه المختزنات اللغوية، ومن ثم تؤثر على طريقة تعاطيه مع العالم من حوله، وتحد من تواؤمه مع هذه العوالم المختلفة التي تحيط به.

إن تأثير اللغة في بنية التفكير لدى الشعوب قضية حازت اهتمام الباحثين والعلماء في مجال اللسانيات المعاصرة، وبخاصة بعد أن نشر العالم (الأنثروبولوجي) إدورد سابير ملاحظاته في هذا الموضوع بعد دراساته الميدانية في لغات الهنود الأمريكيين، ثم جاء من بعد تلميذه النجيب بنيامين وورف، الذي كان يعمل أصلاً مفتشاً في شركة تأمين - وقد شرح هذا التلميذ مفهوم النظرية وحدد معالمها وبسط جوانبها بعد ما أجرى دراسات مكثفة في الأوساط اللغوية للقبائل الهندية الأصلية، وبعد ذلك ترسخت هذه النظرية التي عرفت فيما بعد بالنسبية اللغوية أو بفرضية سابير وورف في علم اللغة المعاصر، وأضحت فصلا بالغ الأهمية في مباحث اللسانيات الاجتماعية وفي دراسات اللغة والثقافة، إضافة إلى علم اللغة النفسي.

والحقيقة أن دور اللغة في (تشكيل) و(تنميط) رؤيتنا للعالم المحيط أمر ملموس في استخداماتنا اللغوية التي نصف بها الآخر، أو نشير إلى الذوات والعوالم التي نتعامل معها، ويمكن تتبع جذوره التاريخية في مراجعة بسيطة للمتن اللغوي العربي الذي تراكم على مر القرون، وحفظته المعاجم وكتب اللغة وكتب التراث كمصنفات الأدب والتاريخ والرحلات، ولكن هذه الرؤى النمطية كانت سائدة أيضا في أدبيات الأمم المجاورة، كالفرس واليونان والرومان مثلا. وسأشير هنا كمثال إلى كيف كانت رؤيتنا للغات الآخرين ولهجاتهم ومن يختلف عنا في العرق واللغة، فمن ذلك ملاحظات الرحالة من خلال وصفهم لكلام ولغات الأقوام الآخرين الذين يمرون بهم، كعبارة بعضهم (وهم قوم كلامهم أشبه شيء بنقيق الضفادع) أو (كأصوات الزرازير)، كما في شطر شعري يروى، أو في وصف الرحالة ابن حوقل لعرب صقلية ولهجتهم عندما زارها في القرن الرابع، ومن ذلك وصف الرجل الجرمي للهجات العربية القديمة، أعني ذلك الذي وفد على معاوية رضي الله عنه فسأله عن أفصح العرب، وماذا تراه عساه أن يجيب وهو في حضرة خليفة من قريش؟ المهم أن هذا الخبر نال احتفاء رواة اللغة واللهجات العربية القديمة، غير أن فيه ما قد يعتبر (تنميطا) لرؤيتنا للهجات الآخرين وطريقة نطقهم لأصوات اللغة كنحو قوله في الخبر المذكور: قوم ارتفعوا عن لخلخانية الفرات وطمطانية حمير وعجرفية ضبة فهذه كما ترى أوصافا غير محببة وأوزانها غير مبشرة بالفصاحة والبيان، حتى إن أبا عمرو بن العلاء يقول: (ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا) مع أن أول من (بعج النحو ومد القياس واستخرج العلل) كما يقول ابن سلام في الطبقات هو رجل من حمير يسمى عبدالله بن إسحاق الحضرمي. وقد حصر الرجل الجرمي في الخبر المذكور كما نعلم الفصاحة في قريش، وهذه صورة نمطية أخرى، أعني في حصر الفصاحة في قريش واختصاصها بها من بين القبائل العربية وقت نزول القرآن، فالفصاحة كانت يتسم بها أيضا عرب آخرون، والقرآن عندما نزل اشتمل على حروف من لهجات القبائل الأخرى، كتميم وأسد وطيء وكندة وبالحارث بن كعب، فلو لم تكن لهجاتها معتبرة لما اشتمل على شيء منها التنزيل العزيز كما هو معروف في علم القراءات، وقريش إنما كانت تتعامل وتتخاطب مع هذه القبائل بلهجة عربية أدبية مشتركة اكتملت ملامحها قبيل نزول القرآن الكريم في أواخر العصر الجاهلي.

وفي هذا السياق المتعلق باللغة يحسن التنويه إلى نقطة مهمة، ألا وهي أن مشكلة تنميط اللغة وتشكيلها لرؤيتنا للعالم المحيط ليست محصورة في نطاق اللغة العربية كما ألمحت أعلاه، وليست وليدة الرواية العربية القديمة للغة أو كتب التراث، وإنما هي مشكلة قائمة في معظم اللغات وموجودة لدى كل الشعوب تقريبا، فإذا ما سلمنا بأن منشأ اللغة في عالم الإنسان إنما هو مواضعة واصطلاح، أو تواضع واصطلاح - كما يقول ابن جني - فإن متن اللغة أعني جماع المفردات والعبارات اللغوية والاستعمالات التي يحتوي عليه تراثها لا بد أن يكون فيه نسبة جمة من التنميط والرؤى المتحيزة تجاه الأشياء والذوات التي وضعت لوصفها هذه المفردات، فكثير من الكلم اشتق أو اخترع أو لنقل اصطلح عليه بناء على مناسبة أو معنى ارتبطت بما يشير إليه وقت وضعه، فمثلا نجد أن الكلمة التي تعني سيدة في اللغة الانجليزية وضعت أو أشتقت أصلا من فعل بمعنى (يعجن أو يفرد الخبز) لأن هذا الشأن أي عمل العجين كان يعتقد أنه الوظيفة الافتراضية للمرأة وللزوجة آنذاك، كما تحتفظ كثير من اللغات وبخاصة تلك التي توصف بالبدائية منها يتصنيف يقسم البشر إلى نصفين، فالأول تعبر عنه مفردة بمعنى (الناس) وتشير إلى القوم أنفسهم أو الشعب نفسه، والآخرى بمعنى (غير الناس) وتعني ما سوى هؤلاء القوم؛ أي الناس الذين من غير هذا الشعب، مثل ما نعرف مما نجده عند اليونان والرومان في تسميتهم للأقوام الأخرى بالبرابرة أي المتوحشين، وهذا التقسيم الاجتماعي - اللغوي ترجع جذوره إلى أصول بدائية موغلة في القدم، حيث كان العداء مستحكماً بين الجماعات والقبائل البدائية في الفترات أو الحقب الأولى من تشكلها، وكانت ثنائية نحن - هم تسود الصراع وقتها وترسم حدوده ومصطلحاته ولغته.

وقد بدأت اللغات في العصر الحديث في عمل مواءمة وتشذيب للجوانب والصور النمطية في طيات وثنايا الاستعمالات اللغوية، وتم تغيير بعض الاستعمالات والعبارات التي قد تلامس مشاعر الآخرين وتؤثر على نظرة المجمتع إليهم، لا سيما وقد احتاجت الشعوب لبعضها واختلطت ببعضها وتداخلت مصالحها، فضلا عن عوامل الهجرة وانتقال أفراد وجماعات من هذا الشعب أو ذاك لتعيش في أوساط شعب آخر، ولذلك لا يعدم الرائي وهو يسير في بعض الأماكن العامة أو يقرأ في صحيفة أن يرى بعض التعديلات اللغوية والإدارية، ففي نطاق الجامعة نجد أن مكتب الطلاب الأجانب أصبح يسمى مكتب الطلبة الدوليين، أو شعبة التعاون الدولي، وشعبة أو (قسم الأجانب) في الدوائر الرسمية أصبحت (شعبة غير المواطنين)، ومفاهيم كأجور وأتعاب الآن يقال لها (رسوم)، وفي المهن الخادمة أصبحت يعبر عنها بالعاملة المنزلية، والحارس الشخصي يعبر عنه ب(مرافق)، وهكذا دواليك. وعلى صعيد أخبار الصحافة نجد أن (تدخل عسكري) قد استبدلت بعبارة (قوة حفظ سلام) وحرب أو معركة ب (عمليات عسكرية)، وحملة مداهمات عسكرية ب (تمشيط أمني) وخلافات جانبية أو معارضة (اختلاف وجهات نظر) أو اختلاف رؤى. وسرت الموجة إلى المناهج الدراسية، وأصبحنا نجد أن عبارة (اقرأ أو اقرئي القطعة أو استخرجي من القطعة التالية) قد أضحت (أقرأُ، أستخرجُ) على صيغة المتكلم، ليلائم الخطاب كلا الجنسين، ولا يحوج إلى إصدار طبعة خاصة من المنهج لكل منهما.

لذلك يبدو للمتابع في العقود الأخيرة أن الشعوب قد تنبهت إلى ما تكتنزه اللغة في خضم استعمالاتها من نمطية وتحيز وتشكيل للرؤى غير الموضوعية تجاه الآخرين، وبخاصة بعدما تمازجت مصالحها وتعاملت مع بعضها، فارتأت عندها إجراء تلك التشذيبات والمواءمات لتضمن الحفاظ على قدر معقول من عدم المساس بمشاعر الآخرين، أو عدم إضفاء سمات نمطية وصفات مكرورة على الأشياء والذوات التي تشير إليه الاستعمالات اللغوية الكثيرة.

صالح محمد المطيري


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة