Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
قراءات
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 

البحريات.. الآخر وتحولات المكان...؟1-3
محمد الدبيسي

 

 

صيغ التحول في مكان ك(الرياض).. لا يمكن التقاط مظاهرها؛ إلا عبر (الإنسان).. كفاعل تستوي عبره أنماط وصيغ ذلك التحول.. ف(المكان) يعطي الكينونة الإنسانية تجسدها وانقطاعها عن الذهنية البحتة.. ومطلقية التجريد.. فهو المتلازم الأهم مع فكرة الوجود.

(وجود) تشكله شخصيات رواية (البحريات) العمل الروائي الأول للكاتبة (أميمة الخميس) الذي تلى أربع مجموعات قصصية.. ظلت مستويات الرؤية فيها تتمحور على (المكان)، وتتعالق مع مخاضاته وتؤثث لشخصياتها نطاقاً نصياً في إطاره.. بشكل تحول معه المكان إلى فضاء سردي؛ تستقطر الكاتبة من إفرازاته خطوط ومقاطع الأحداث وبنى تمركزاتها ومحاضنها.. ولا سيما في (الترياق) المجموعة القصصية الأخيرة لها.. والتي أبرزت (المكان/الرياض).. كعنصر وظيفي في عتبتها النصية (التفسيرية) التي تضافرت مع (الترياق) اسم المجموعة وتيمتها الأساس.. ومن ثم اتخذت اللغة السردية (المكان) أفقاً تتشكل الأحداث والوقائع في جزئياته وامتدادته, كاشفة نظامه وثقافته وبناه السلطوية؛ لتعبر عن النسيج الاجتماعي في حال اشتجاره مع تلك الأنظمة والبنى والثقافات.. التي تلتبس وتوجه حياة وحراك تلك الشخصيات.. بما لا يمكن معه عزل الشخصيات عن مكانها أو فصلها عنه.. فهو حاضن الثقافة؛ التي يُرام كشفها أنساقها أو تعرية مظاهرها على صعيد الأفكار والقيم والسلوك. وهو الذي يلقي بظلاله على المواقف والأبعاد.

المكان /العتبات الأولى:

أما (المكان) في هذا العمل الذي نحاول سبر تكويناته ومضامينه الدلالية، فقد اتخذت له الكاتبة منحى (أركولوجياً) يحفر في مستقراته وبناه الاجتماعية الأولى وتحولاته الحضرية اللاحقة.. في بناء سردي يستجمع جمالياته النصية من الإستراتيجية التي احترفتها الكاتبة، لتعيد تشكيل المكان وضبط تحولاته وفرزها عبر شخصيات نوعية.. هن (البحريات) حيث تستقصي الكاتبة - وبوعي باستراتيجيات السرد الروائي -.. القيمة المحورية الرئيسة للعتبات النصية.. كنصوص محاذية؛ تبدأ من تشكيل لوحة الغلاف.. وعبر النسبة غير المألوفة لذهنية التلقي - نسبة النساء إلى (البحر) - تنطوي على مفهوم (سوسيولوجي) لدلالة تلك النسبة.. تنص الكاتبة عليها في (الغلاف الأخير) من الرواية: (البحريات نساء تقذفهن أمواج البحر إلى قلب الجزيرة العربية في المدن القديمة والجديدة.. وفيما تغير الموجة.. تتجذر النساء البحريات في نسيج الحياة.. وتختلط حكايتهن بحكايات النساء الأخريات في البيوت المغلقة.. التي يحكمها الرجال بغواياتهم ونزعاتهم الغريبة).

** وهذه العتبة التعريفية للبحريات.. لا تأخذ صيغة معيارية إخبارية في تقريب منطويات تلك النسبة وشرح دلالتها؛ بل تحاول رسم تضاريس حياة هذه الفئة.. وفق صيغة شاعرية تعتمد الأسلوب الوصفي لتجسيد دلالة نافذة لعمق المعنى واستبطاناته.. تليها عتبة أخرى هي (الإهداء) في أول صفحات الرواية.. (إلى سهام سيدة البحريات) هذه ال(سهام).. التي لا تشي بأكثر من (اسم امرأة).. ربما احتلت قيمة استثنائية في اعتبار الكاتبة، لكي تستحق أن تُهدى لها هذه المدونة من سيرة (البحريات)..؟ وبما أنها (سيدة البحريات) فهي المحرك والباعث الرئيس للكاتبة على فعل (الكتابة) وتدوين سيرة (البحريات)..؟

هكذا تتعاضد دلالة (العتبات) عبر تنويعاتها النصية؛ قاصدة الخوض في شرك تلك الحياة التي تشي العتبة الأولى (لوحة الغلاف) بسمتها الحذر. كيانان أنثويان يتشابكان بصمت.. مموهان بألوان جامدة..؟ لا تكاد تبين إلا عن وجهين متقابلين..وعينين مطبقتين لكل منهما..؟ بما ينم عن صمت مزمن.. وإغفاءة سادرة؛ تعبر عنها إيحاءات الألوان التي يكتسيها السواد.. مشكلاً مساحتها الكمية الأكبر.. في إطار خطت في أعلاه عبارة (البحريات) بلون أبيض.. وكأن نسبة البياض هي الكتلة الأقل إلى جانب السواد.. فالبياض الضئيل.. الذي تشكله لفظة (البحريات) بصيغتها الجمعية وموقعها في ذروة سواد الغلاف, يمكن اعتباره جدلاً بين (لونين) متناقضين.. يرمزان إلى صراع وجودي بين البحر (الأبيض) والصحراء (السوداء) المحيطة.. وعبر تناقض كمية التناسب بينهما.

ومن هنا فلا يمكن أن نحيل عناية الكاتبة الفائقة بهذه (العتبات).. إلى قصد عفوي انساقت إليه كتقليد سائد في مضمار تصميم واختيار أغلفة الأعمال الإبداعية..؟

وإنما إلى وعي بالقيمة الدلالية لتلك (العتبات).. التي أصبحت مكوناً نصياً محاذياً.. يتعالق مع بنية النص الأصلي التفصيلي المكتوب.. ويتداخل مع بعض طرائق تنظيمه.. أي أنها تحمل في طياتها وظيفة دلالية تحاول كشف إستراتيجية الكتابة.

وهو ما يمهد لعملية التلقي بإشارات تترسخ ضمناً في وعي المتلقي, بدءاً من المكونات السردية الرئيسة التي يبنى عليها النص.. ويؤسس عليها معماره السردي.

المفارقة/المكان:

يحرر النص آثار وتجليات التزاوج بين (الصحراء/والبحر) ويعبر عن محايثات هذه العلاقة المفارقة؛ من خلال الوقائع والأحداث التي تعيد الكاتبة استثمارها في مضمار سردي روائي؛ في سياق الخطاب السردي المحلي.. الذي بدأت نماذجه تقارب تخوم الأمكنة وتصعِّد من إمكانات كشف أنساقها الاجتماعية.. وإضاءة مضمراتها,عبر الحفر والتعرية والتقاطع والتكثيف لحضور الأمكنة وصيغ الالتزام باشتراطات ذلك الحضور.. في صنيع سردي جمالي, يتفيا المكان ويحرك مستقراته..!

ومن هذه الفرضية.. جاءت رواية (البحريات).. حفيةً بهذه المهارات السردية.. إذ اتخذت الكاتبة (البحريات) مدخلاً تحفر به قاع المكان وتوقظ بهن ركوده، فهن المضاف الإنساني الاستثنائي - إلى الصحراء - والطارئ بثقافته ووجدانه المضمخ برائحة البحر وأسراره وحكاياه.

ف(بهيجة) عميدة (البحريات) (كانت فاقعة، مفرق شعرها الكستنائي المستقر.. يلتمع تحت غطاء رأسها, التل الأسود الشفاف الذي يغطي رأسها ومن ثم يستدير حول وجهها عندما يلامس وجنتها البيضاء اللامعة كان يزيدها غرابة...) ص 7 .

** فهذه البحرية الأولى التي تستهل بها الرواية.. ومنها يبدأ الغوص في المكان: (مكان التزم الوقار في اللون النبرة واصطفاف الأثاث الشحيح قلب الصحراء المثقل بالمرارات وأنين السواقي من المزارع التي تتوسل الحياة من قيعان بعيدة.. وكانت نبرات صوتها وألوانها البراقة لا تتناغم مع الألوان الترابية المطفأة للمكان وأصحابه...) صـ 7 .

ولا يعكس مثل هذا الوصف المكاني لوناً نفسياً غير السواد, المثقل بالمرارات. المفارق والمتناقض مع بياض (بهيجة) وجذور كينونتها البحرية, ويلقي بظلاله على (وجنتها البيضاء).. وهو بدية انسراب الدلالة النصية الرمزية للعتبات في المتن السردي.

ومن هذه المفارقة بين (بهيجة والمكان) تبدأ الأحداث تنتظم وتتوالى من الذاكرة الساردة.. بعد أن تصور طبيعة العلاقة بين (بهيجة).. ومكانها الجديد (المثقل بالمرارات الذي يتوسل المياه من قيعان بعيدة).. كما تتوسل (بهيجة) ألفة مفترضة مع مكانها القدري، بحسب وصفه المثخن بالنفي والعطش والسواد في منزل (آل معبل) الطيني المجسد لأنظمة المكان وأجواءه العطشى والمرة.. ومع (أم صالح) ربيبة المكان ورمزه الأوفى، التي تشعل ضراوة الإحساس بغربة (بهيجة).. التي لا تستطيع التواؤم مع ذلك (المكان) فضلاً عن استيطانه. لتظل (أم صالح). تعلق على غربتها.. مزيداً من مسوغات النفي ومبررات الحجر النفسي والعاطفي المريع.

(غربة) لاتفتأ (أم صالح) تذكي أوارها، ففي كل موقف تحاول إيقاظ شعور (بهيجة) بهزيمتها أمام الزمن وسطوة المكان. فلا تزال منفية عنه غريبة عليه.. حتى عندما تدعوها للصلاة..؟

يتحول ذلك النداء إلى تذكير متواتر يؤكد الغربة ويجدد موقف الإقصاء (قومي صلي جعلك الوصل.. قومي صلي لا ربي يعاقبنا بسببك. الشر يعم والخير يخص. أنا أدري من وين يجيبون لنا ها الكافرات.. حسب الله عليك يا شامية إبليس) صـ 36 .

** وبقدر المستوى المجازي لهذه اللغة، وتناغم مستويي (المحكي المحلي) و(الفصيح) فيها؛ لاستظهار المكنون النفسي (لأم صالح) إزاء (بهيجة)، فهي تعبر عن منطويات تفكير وموقف من (الآخر).. عندما تجزم بيقين اعتقادي مطلق بأنهن (كافرات)..؟ حتى في سياق واقعة (الدعوة للصلاة).. تأخذ هذا التبكيت القمعي ضد (بهيجة).. ومن ثم ينسحب قانون هذا التفكير وتبعاته على (البحريات) اللاتي تخطو (بهيجة) بهن في خضم المكان الجديد.. الذين لا يمكنه احتواؤهن.. بالرغم من اشتراطات علاقات الزواج والمصاهرة والحياة والتعامل.. يبقين منفيات خارج إطار الألفة(العائلية/ الإنسانية) التي يمكن لتلك العلاقة أن تؤسسها افتراضاً..!!

والكاتبة أو (الراوية العليمة).. التي تحاول استجلاء حساسية ومآزق العلاقة بين (البحريات/والمكان) وإشكالات هذه العلاقة التي تأخذ مساقات توتر نفسي واحتشاد عاطفي وانفصام فكري على مستوى الرؤية الجدلية لشخصيات (إنسانية) من فضائين مختلفين (البحر/ والصحراء).. ومن ثم تتبنى إستراتيجية عكسية للنمط السردي الخطي، الذي يتخذ من بداية الحدث نواة لانبثاقه ومن ثم امتداده وتراتبه المنطقي. فتبدأ الحكاية من نهايتها. حيث كانت نهاية (بهيجة).. التي تسترجع - تحت وطأة المرض - مشهد حياتها الماضي متخما بالأحداث والمفاجآت والمباهج والحسرات والصبا والأحلام والناس.. واختفى المشهد فجأة أمام عينيها..؟

وكأن الضباب غيَّب ملامحه؛ التي لا تلبث تتماهى في (ضباب يطوق غرفتها منذ ثلاثة أيام في مدينة (منيابلس بولاية مينسوتا).. (نزعوا ثديها وبعض إبطها وغدا سيبدأ العلاج بالكيماوي) صـ23

حتى السطر الأخير من الرواية (..... لكن بهيجة استجابت لنداء تربتها)

** فبين استعادة (المشهد/الحياة).. ونهاية الحياة.. وفي فصل (أجنحة تأخذ في طريقها الأشياء) صـ23.. تبدأ الذاكرة في استرجاع حمولاتها.. ورحلة حياتها من بيارات البرتقال في الشام وهي صبية في الثانية عشر.. إلى أمومة فاقعة وكهولة مبكرة.. تجف ينابيعها في رمال العطش الصحراوي. وبيوت (آل معبل الطينية).. وتخوم وادي حنيفة في أطراف الرياض.. المدينة التي تستظهر الكاتبة تاريخها الإجتماعي المنسي منذ عام (1959)حيث هدَمت الرياض سورها القديم..!

وهي تفرز وتفكك المفاهيم والتصورات والمواقف؛ وتتحسس أثرها على شخصياتها, داخل مكان مغلق.. ينحو تدربجياً نحو التحول في صيغ المعيشة وأنماط الاستهلاك.. دون أن يمس ذلك التحول؛ البنية الفوقية لمفاهيمه ومنظومة القيم والسلوك.. التي تستبطن قضايا قيمية فيه؛ كالموقف من الآخر..؟

** بهكذا معنى.. يمكن أن نستعيد موقف (أم صالح) من (بهيجة) الذي يعبر ضمناً عن الموقف من الآخر عموماً.. (داخل المحيط العدائي الرافض لألوانها الفاقعة لم يشربها ولم تشربه.. دخلت روحها معلقة في مكان لا تستطيع أن تمضي بها مسافات أكبر.. لذا بدت روحها شعثاء نائية وفاقعة دوما.. تلك الروح التي تلتئم شظاياها بين يدي صالح فقط) صـ 63.

** لا تبرح تيمة اللون كعتبة نصية سارت بمحاذاة النص منذ إشارات تكونه الأولى.. أن تتشاكل مع مقتضيات الحراك السردي وألوان الطيف الاجتماعي الأخرى في النسيج النصي؛ وكأن (اللون الأبيض) متلازمة النفي وموجبه العصي على الاندماج مع ألوان الصحراء فاقعة بالسواد.؟

وبهذه اللغة الشاعرية، بتشكلات أسلوبها المجازي وإيحاءاتها المشعة، تستطلع الكاتبة عوالم ذواتها الإنسانية.. وتستظهر دواخلها النفسية وتعاود استدرار فيض ذاكرة (بهيجة) وما تختزنه من شجن آسر.. وذكريات مؤرقة.. كما تنحو الكاتبة إلى إستثمار تقنيات تيار الوعي، في استدعاء مكان (بهيجة) الأول (البحر).. ومن ثم تفسح أفق التداعي لاستيعاب التفاصيل الأكثر تعبيراً عن الوجدان البحري، واستظهار جدله الذهني في مفردات الحياة اليومية البسيطة، التي تنم عن معنى أبلغ تأكيداً على نزوع تلك الشامية إلى كل ما يحيل إلى دفئها العائلي وحمى رابطة الأمومة- الذي يخترقه منفى (أم صالح) - عندما تسترجع ذاكرتها فصولاً من ذلك التنافر الضدي بين وجداني (البحر/والصحراء)..؛ في صيغ مظهرية بسيطة تنطلق من أعماق نفسية دفاقه (مازالت تذكر بحرقة مرطبانات المكدوس والزيتون المعقود التي كانت تصلها من الشام من أمها بين فينة وأخرى فتضعها في الرف الخارجي لغرفتها فتقوم أم صالح بالتخلص منها بحجة أنها تفسد الممر برائحة الثوم.. كانت عندها بهيجة تحس بالألم والحزن والفقد) ص81


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة