Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
قراءات
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 

(باشراحيل واستنهاضية الرؤى)
د. أحمد كشك *

 

 

عبدالله باشراحيل شاعر استقبله وجداني وعقلي في بداية الثمانينات وكنت أكبره وأراه شابا فتيا وعصيا، لأنه كان يقاطع بتجاربه الأولى اتجاها شعريا يكسر أواصر الموروث، ويفر من الزمان ويتعالى على المكان.

وما كانت رؤية الشاعر الوليد وقتها إلا منافرة لهذا الاتجاه.

واليوم استقبله بعد رحلة شعرية ثرية مديدة عملاقا يتحرك من خلال رؤية شعرية تعرف دورها وتوظف إمكاناتها المتألقة لصوغ شعر جميل يؤكد حركة المعاصرة والموروث أحاول الآن أن ألملم بعض متناثرت عندي تصل الرؤية الماضية الحانية برؤية اليوم فأنا أعب هذا من كأس ذاك فأجد متعة المذاق في شعره.

1- مساحات التجربة والرؤية الشعرية متعددة فتجربته استنهاضية وهذا يؤكد على الدور والرؤية فالذي يكتب اليوم عن وطن الشمس ويا أمتي العظيمة والكراسي ومر عتابك يا وطن وخيل الكهولة والبطل وعصر الأسكندر وأنت بلاد العطر وعبدالعزيز.

كتب في الماضي عن فلسطين ولبنان التي تحيا حركة في شعره الأولي وفي شعره الأخير.

وتجربته عالمية وجدانية إنسانية فالذي ناضجت تجربته وهي فريدة في حركة الشعر السعودي من خلال صبوة خاطئة على لسان فتاة، حيث يبدو المظلوم قويا والجاني ضعيفا.. ولا أريد وكان لأختي زوجها فنهبتها.

وتجربة تلملم أوصال الماضي وتقاطعات الحاضر في ظل مكان هو العالم الرحب لدى شاعريته وأعني به مكة وما أدراك ما مكة ماضيا وحاضرا وأملا بادية وحاضرة دنيا وعمقا ومرجعا.

2- فمكة ذرا، بخاصة وأنها موفز الإيهام والإبداع وأنها موقع يخرج من الآن إلى كل الزمان وبها يصبح حديث الحاضر مناجاة للمستقبل للتمسك بالماضي، مكة رمز الوجود والأصل، بدء الكيان والعروبة والإسلام.

مكة تجربة شعرية واضحة في إبداع عبدالله باشراحيل وما أعتقد أن شاعرا في تراثنا المعاصر وظفها وجعلها صيغة إنسانية حانية، صيغة غير جبرية وغير صارمة مثلما فعل باشراحيل ففيها يقول:

مهد آبائي وأجدادي وقومي

من بني جُرهُمَ قد طابت محلا

وندى يعبق بالإيمان زهوا

وصدى التسبيح والقرآن يتلى

قبلة الإسلام تسمو بالبرايا

أبد الأزمانِ إحسانا وعدلا

موطني أم القرى والنبل فيها

إنها من كلّ ما في الكون أغلى

وعنها تنشأ الراية ويتمحور الوطن فهي الجزء الذي تربو مساحته أضعاف أضعاف الكل هكذا نسمع:

وطني تاريخٌ لا يفنى

مكتوب بظلال الكعبة

وهو هنا يجري بالمتدارك وفق ما جرى في شعر التفعيلة.

3- لغة الشعر وأدواته..

إنني أمام شاعر يملك أدوات الشعر شاعر يعطيك الذي أنت سائله أرى شعره يجري مائيا في يسر وسلاسة أرى شاعرا تأصلت فيه البداوة والمعاصرة وقد اختلطا معا فالروح عربية نهضوية متوثبة جميلة.

واللغة ليست بالأحجار الصماء وإنما هي لغة موسيقية بهيّة الكلمة، التحم فيها رصيد الماضي مع رصيد الحركة المعاصرة تتذوق في إهابها حركة المرقش وابن زيدون.

ومن أجل ذلك تقرأه كتابا نافذا إلى وجدان المتلقي المعاصر.

لا كزازة فيه ولا ترخص، ولغة الإيجاز واللمح والرمز الشفيف واضحة في مساره الذي أتمنى له الديمومة والاستمرار.

وأقرأ معي هذه الرملية الإيقاعية التي تلخص حال المنافق المرائي نتاج هذا العصر الوصولي في نموذج ينم عن قدرة الاختزال التي تنم عن أعلى درجات الرمز والشاعر في نص له بعنوان الكرسي يقول:

ناشط حول الكراسي

من وضيع لسياسي

إن تكن وليت حكما

فتذكر ما نقاسي

نحن أدرى منك فينا

نحن من عمق الأساس

لم تكن، عوفيت، يوما

بحكيم أو نطاسي

وانظر معي إلى السخرية الواردة من عب الجملة الاعتراضية عوفيت التي تؤهل النص في سبك وحبك إلى الختام الذي يقول فيه:

فارتحل عنا غريبا

دعك من زيف الحماس

نحن من أرض السحايا

وسنا تلك الرواسي

فالختام كما أرى ختام عملاق تنشط بخياله الرواسي الشامخات هامُ العربي ويسمو بسناها كبرياؤه.

أقول مرة أخرى أن لغة الشاعر الأبولية في كثير منها لم تنسه جلال القدم ولم تنسه كما قلت الدور الاستنهاضي الذي نراه في أنفاس الناي والاسكندر الأكبر الذي أضحى رمزا سار على دربه هتلر ويرتع الآن في ظلال دربه بوش.. ومن اللغة يأتي إيقاع الشعر وإيقاع الشعر كما أحسب دائما جزء من إيقاع اللغة ومع باشراحيل نحسب أن إيقاع الشعر العمودي تختلط قراءته وإنشاؤه بتجارب العصر الإيقاعية مسابقا استخدم فاعل كما يستخدمها أصحاب شعر التفعيلة في نسق عمودي.

وشاعرنا لقدرة الإيجاز لديه وللرومانسية الغنائية عنده ميال في شعره للمجزوءات ولنا أن نقف وقفة أمام نصه دولة البكم كي نقرأ في هذا النص حركة الإيقاع

لا تسألي يا (جراح القلب) عن غمي

كانت هنا أمة

سارت إلى الضيمِ

أواه من ندم

يحيا على ندمِ

يحسو الهزائم أقداحا من الذم

والوزن عمودي بسيط يقطع داخليا بما يعطينا شيئا من مذاق الشعر الحر.

وفي أنفاس النأي يتحرك مجزوء الكامل في جزء باشراحيل أقل من مورده العمودي يقول:

يا صاحبي كذبوا

وتفرق العرب

في كل ناحية

تلقى لهم صخب

واليوم قد صمتوا

للخوف وارتهبوا

غضب الزمان فما

للقوم ما غضبوا

متفاعلن متفا

متفاعلن متفا

فالجزء الإيقاعي يجزئ في وفاق مع لغة الاختزال التي أثرى مرادها ملامح الرمز والمواراة أيها الأعزاء أخشى أن تكون هذه المتناثرات حكما لازما، فهي انطباعات مستمتع لمورد شعري مركب متألق وإن مكثا طويلا مع باشراحيل يثبت مقولة لا تقبل الشك: إننا أمام شاعر عربي كبير له مذاق وله دور وله رسالة يشتعل في الواقع العربي في كل زمان ومكان.

* عميد كلية الآداب - جامعة القاهرة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة