Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
سرد
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 
قصص قصيرة
فهد المصبح

 

 

مداهمة

حين تداهمه حالة الكتابة، يتحول بيته إلى سجن، وحده القلم يجوس الوجوه والجدران، ينفث فيها صمت القبور، ليتوحد مع صاحبه، فتغدو الورقة أنثى مهزومة، ينثر عليها سطورا لا تخلو من ارتعاشات الهيبة، في لحظة تجلي تحيله كائناً بدائياً، يضحك.. يزعق.. يبكي، وأحيانا يحادث نفسه بكلام مبهم، فتتلبس البيت موجة رعب، يغلقون الأبواب، ويوصدون النوافذ، حبساً لهذيانه الذي انطلق من قمقم الكتابة، وهو يحدق في كل شيء، يريد أن يمحو النور ليظل مع قلمه، وفضلة عقل لم تهرب من صندوق رأسه العظمي، منهمكاً في عوالمه وعينه على الورقة تحاول الفرار من سلطته، فيلحق بها ويشعل فيها النار، ثم يغفو على استنشاقها، ويده قابضة على القلم بقوة الجنون حتى يحطمه، فتعود الحياة إلى البيت.

***

فرار

صحا من حلمه المزعج.. تحسس أصابعه لم يجد شيئاً.. نظر إلى الشمس الواقفة على رأسه.. كانت عقارب الساعة تدور بملل.. عند المحطة وقف وحيداً ينتظر الحافلة.. الطريق غول يبتلع السيارات العابرة.. يحس لفح هوائها.. يتقيه بيده.. جاءت الحافلة تحمل ركاباً منوعين.. عمالا تدمي وجوههم الغربة.. جلس على أول مقعد فارغ صادفه.. تأمل وجهه في زجاج النافذة.. وجده أكثر عبوساً.. يرى عليه شوق الوصول.. توقفت الحافلة مرات عديدة، في كل مرة لا ينزل أحد الكل يصعد ميمماً المركز.. عند السوق الكبيرة افرغت ما فيها ولاذت تستريح.. الدكاكين مقفلة تترقب العصر بشيء من الأمل.. ظل يدور في ممرات السوق.. لاحظ إسكافياً يستخدم دكانه للسكنى.. اقترب منه شاهد اللقاء يسكنه.. طلبه بعض الماء.. شرب ثم جلس بقربه.. وجد الحديث معه مقطوعا لأنه يؤثر شيئاً آخر.. ظل يغير مكانه كلما أحس بحرارة الأرض تؤذي مؤخرته. في جيبه قطعة خبز ابتلعها بعلبة مرطب ابتاعها من بوفيه يزيده البائع كآبة.. استند إلى الجدار.. راح يهمهم بأغنية شبابية لا يحبها.. نظره مركز على الإسفلت الحامي.. خلع أحد نعليه.. ثنى ساقه الأيمن فوق ركبته المبسوطة.. زفر، ثم عاد إلى الهمهمة والانتظار.. أخذت الناس تتوافد إلى السوق تحمل معها الهموم والمنى، في حين استعد هو لمغادرته.. ظل يسير حتى وصل الحافلة.. وضع قدمه داخلها.. لم يكن فيها أحد غيره.. نظر إلى السوق التي تفاقم روادها.. مد يده في جيبه.. أخرج نقوداً أفرغها في الحصالة.. عند الغروب نزل متبدئاً مشوار الليل الأكثر طولاً.

***

ما يطلبه المغفلون

وفرغنا من صلاة الاستسقاء.. هكذا نفعل عندما يشح المطر.. نملأ الدنيا دعاء وطلبا.. مبتدئين يومنا بإيصال الأولاد إلى مدارسهم.. ثم نعود نتحلق حول التلفاز.. نسمع الأخبار.. حتى بلغ الضيق بنا مداه ونحن نشاهد طلباتنا تأتي معكوسة.. تحسسنا خطاباتنا.. تأكدنا من اتصالاتنا.. لعلنا ساعة البوح ننسى ونطلب عكس ما نريد.. المهندس يجزم بصحة الطلبات.. الجهاز متناهي الدقة.. لعل الخلل فينا.. تبرع أحدنا بفحص نفسه.. المهندس لا يحسن فحص البشر.. ظلت مشكلتنا قائمة ونحن لا نتقن غير الدعاء.. المطر يعانق الأرض.. يغرقها وتظل نفوسنا عطشى.

في المنتديات تدور أحاديثنا حول تأخر الطالبات.. المذيعة تخرج علينا.. تشاهد وجوهنا المكرورة.. تصاب بخيبة ألم تمتص ابتسامتها الحلوة.. تبدأ بسرد الأسماء مشفوعة بالطلبات.. نتهلف.. سيكون الوضع أحسن.. تختفي المذيعة ليباغتنا مشهد مرعب.. نبدأ اتصالاً أخر.. تُعلن الطلبات من جديد.. نتراخى.. نستعد لتلقيها تخرج علينا موسيقى جنائزية تنذر بشيء.. عاصفة هوجاء قطعت شرايين المدينة.. يظلم المكان.. يصمت التلفاز.. نهرع إلى المذياع.. طلباتنا تجد صعوبة في تحولها من التلفاز إلى المذياع.. نلهث خلف الأقمار.. هناك الخبر أصدق.. تعود للدنيا برودة ما بعد المطر.. نضاعف شرب السوائل الساخنة ونتفنن في الطلب.. سجلنا في كل محفل طلبا.. زادت طلباتنا.. تعاظمت وانتظرنا طويلاً.. انتهت الأخبار.. تلتها النشرة الجوية وظلت أمانينا حبيسة.. عزمنا أن يراجع كل منا نفسه.. يتفحص طلبه.. لعل العيب كما قال المهندس.. البشير يقبل بالحل قائلا:

نجلب خبيرا كما نفعل في الضائقات وندعه يحرر طلباتنا.

فرحنا.. تعالا هتافنا.. اختلفنا في هوية الخبير.. تجادلنا في لغة الطلب.. البعض يصر على لغة الأم.. آخر يحبذ لغة القوم.. الخبير يهدئنا قائلا:

هناك يترجمون الطلب.

جاءت النتائج مخيبة للآمال.. انتكاسة أخرى. شكوى عارمة تبح الحلوق.. بعد دراسة مستفيضة أعلن الخبر.. ثمة شيء يعكس الطلبات.. الفاعل مجهول.. العلم صامت.. الخبير يلوك عجزك ونحن نمضغ التبريرات كلما بلي تبرير جئنا بجديد يساير نكستنا.. نهرب من إخفاقاتنا إلى مشهد يتكرر كل صباح.. براعم تحمل الحقائب على ظهورها.. تثملنا الفرحة في جيل قد يشهد زمن التحقيق.. رفضت ابنتي النزول من السيارة.. المصروف في يدي لم تمسسه.. ظننتها تريد أكثر.. كانت منكمشة في المقعد.. حزنها يمتد بطول شريط الشعر الأبيض.. استطلعتها الخبر.. ترددت.. اختلط في وجهها الدلال بالكبد. أحسست أن شفتيها أفرجت عن لسانها قالت بعصبية الأطهار:

كل يوم في الفسحة أطلب فلافل يعطوني زعتر.

انفجرت ضاحكاً.. ظللت أضحك بتوجع.. غمز الذي خلفي منبه سيارته.. تحركتُ.. انثال الهواء بارداً على وجهي.. مسحتُ دموعي وبي رغبة ملحة في البكاء.

***

أقلام الخشب

(من الجماد تنبت الحياة وتستأصل ويبقى الفناء دالة الوجود)

من أقوال حكيم موسوس

أولاد كموج البحر

تقض الأرض كالزلزال (1)

طلباتهم تضجر الآباء

رغم الجوع والمرض والتخلف قالوا بصوت واثق:

سنتسلح بالعلم

ومرت الشهور

وفي كل عام يخضعون لامتحان نتائجه تبعث الصراخ

الكل ينشد سبب الإخفاق

حتى ألفته آذان الآباء، فقابلوه بالصمت ما دام لا يمس سلطانهم المقدس

الأولاد تسبر المستقبل والكبار تردد:

الغيب لله وحده

جاء الامتحان الكبير.. سكنت الأجساد الدور

جمع الآباء الأقلام

نام الأولاد بأدمغة مثقلة

وجاء الصباح ولم تحضر الأقلام

كانت التعليمات تدعو للتأجيل

محال.

كانت صرخة الرفض في وجه الآباء فسقوهم مخدراً:

كل شيء تطور حتى الاختبار

والأقلام؟

سنوزعها مبرية في قاعة الامتحان

وفي طريقهم شاهدوا الأقلام ترقد حبيسة الجدران

بأفواه مثلومة

تهتف بيوم النجاح

واصل الأولاد طريقهم بأيد خالية

يبحثون عن قلم

وهي في المكتبات

فقصدوها

ليجدوا المفاجأة

رفض من الباعة بيعهم الأقلام

خوفاً من استعمالها في أمور غير دراسية

غضب

غضب

الأولاد ترعد تريد المصير وتواصل سيرها إلى ساحة الوغى

في أيديهم أقلام من خشب

اتخذوها من أغصان الشجر

ودخلوا معمعة الامتحان

كان السؤال كبيراً

كتبوا إجابته بحروف مسروقة (2)

لم تظهر على الورق

فالأعواد لا تكتب إلا على الأرض

ينقصها المداد

فطنوا إلى أمر تهامسوا به

عصروا دماءهم وأرضعوها أقلام الخشب فكتبت سطوراً قرأها الجميع إلا هم

والآباء

عاجزة تبكي السند

والأولاد

رفاتاً تحت سيوف الخشب

والنتيجة

ككل سنة لم ينجح أحد

(1) من قصيدة لسعد العتيق.

(2) من عنوان لمجموعة هيام المفلح.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة