الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 29th March,2004 العدد : 52

الأثنين 8 ,صفر 1425

هنا..ك...
هنا...؟
منصور الجهني

هذا المطر الرائع، كما لو أنه يغسل تعب السنوات الطويلة أخرج إلى الشارع.. يستقبلني هواء عمان البارد، المشبع بالندى، ورائحة الأشجار.
أملأ رئتي.. فتمتد أمامي صحراء شاسعة، كأن هذا الهواء ليس لي، كأنها لحظة عابرة،، مثل طيفك الذي يمر سريعاً، قبل أن ينتبه الياسمين.. أو يفيق النرجس من غفوته، لكن هذا الرذاذ البارد الذي يلامس وجهي بنعومة يوقظني من هذا الهاجس، يستعيدني إلى عبق اللحظة، ورغم شدّة الصقيع.. أمشي وحيداً عبر الأرصفة الخالية.
أوراق الأشجار تلمع تحت أضواء الشارع، ورائحة الأغصان المبللة تملأ المكان، تملأني.. فأدخل في غابة من الصنوبر، أصعد جبالا شاهقة، أتبع الرعاة إلى مياه النبع البعيد، ربما هناك أكتشف السر، اكتشفك من جديد، اتهجى في ملامحك لغتي، ربما هناك أجد القصيدة، فأبدأ رحيلي الأزلي خلف ناي الشعر، أجتاز متاهات الحلم على خطى جلجامش، وحين يدركني التعب أعود إليك.. أعود إلى صحرائي القديمة، حاملاً وردة الذكريات، وبقايا الرائحة.. لماذا أنت بعيدة إلى هذا الحد؟.
عمان التي تهجع الآن في حضن الصقيع والمطر،، لا تمنحني أكثر من هذا الرصيف، لكن هذا كل ما أريد، هذا ما أبحث عنه: الهامش.. الذي يضعني على حافة العالم، حيث أرى الأشياء كما أريد، أنظر من نافذة حلمي، فأعيد ترتيب المشهد، أتجاوز ما تحكيه الصورة، ما أراه ماثلاً أمامي.. إلى ما وراء ذلك، لا أعني أنني أمتلك رؤية تضيق عنها العبارة، ومع الاعتذار للنفري، ربما أقول: كلما اتسع الهامش اتسعت الرؤية، وجاءت العبارة أكثر ألماً، ربما لأن الحقيقة كذلك.
الهامش فسحة بين مكانين، أو بين زمانين، أو بين بين، لا أنت هنا، ولا أنت هناك، لست في إطار الواقع، ولا في فضاء المستحيل.
هناك تفاصيل كثيرة يمكن الاستغناء عنها.. سواء في النص، أو في اللوحة، أو حتى في الواقع، لكنَّ شيئاً ما يبقى.. قد يكون خارج التفاصيل خارج الألوان والظلال.. ربما هو ما يبحث عنه المبدع، والرسام، وما نشترك نحن معهما في البحث عنه المبدع، والرسام، وما نشترك نحن معهما في البحث عنه.. لا لذة في المكتمل، والواضح، فيما يقول، ويقرر، لكن اللذة فيما يشير، ويقترح، ويحاول، اللذة في الهامش.. حيث تخرج من جنة المرايا إلى عراء الأسئلة.. حيث ينصب الفراغ فخاخ الدهشة، لظلك المتعب، يغويك السراب.. فتلاحق ظلال الغيوم، وأطياف المستحيل.. يالهذا الرحيل الذي لاينتهي، أو ربما الذي لم يبدأ بعد
لكن أي تجريدٍ في هذا المشهد الذي تراه الآن، أو ربما الذي تعيشه.. الذي أنت جزء منه، حيث هذا الرذاذ البارد يوقظ كل حواسك النائمة، يستثير رماد الذاكرة، وما تبقّى من جمر الأغنيات التي لم تنطفئ بعد؟
تتأمل الواجهات الحجرية لبيوت عمان الأنيقة، الياسمين الذابل خلف سياج الحديقة، الغيوم فوق التلال البعيدة.. هاهي الطبيعة تتجسد بصورتها المثالية في خيال البدوي الحالم دوماً بالمطر، الراحل خلف قطعان الأمل.. لماذا إذن تحاول كسر الإطار.. الإفلات من عبق اللحظة.. لماذا تتجاوز سكون المشهد وتصغي إلى أصوات قادمة من بعيد.. من أقاصي المساء الذي يشكل خلفية هذه اللوحة. حيث تتفتح العتمة عن دهاليز وطرقات.. تقودك إلى خاصرة المدينة.. إلى مخيماتها البعيدة.. تصغي إلى حكايات لا تنتهي عن التشرد والحرمان، والأحلام الموءدة.. وتبقى مشتتاً ما بين اللوحة وظلها.. ما بين الجرح الذي يمكن لمسه، وأوراق التوت.. ليست استثناء تلك المدينة، بل هي مثال لكل مدننا العربية.. وربما كل مدن العالم، حيث تزداد المسافة كل يوم بين أحلام الفقراء البسيطة، التي لا تتجاوز أحياناً رغيف الخبز، ونهم الحيتان التي تبتلع كل شيء، وتبحث عن مزيد.
عشر دقائق فقط تفصلك عن وسط البلد أوقاع المدينة كما يسميه البعض، عشر دقائق ليتغير بعدها كل شيء.. وكأن ستارة أنيقة، انزاحت عن مشهد تراجيدي على مسرح الحياة المليء بما يحزن.. يتحول المشهد تماماً عبر هذا الانتقال السريع.. وكأنك عبرت بين مكانين، أو بين زمانين..
ماذا يمكن أن تقرأ في تلك الوجوه المتعبة، وهل لديك مقدرة لاحتمال مزيدٍ من الألم؟.. شيخ عراقي يبدو كما لو أنه خارج للتو من مقبرة، يساوم رفيقة الشاب، ولكن الأكثر رثاثة على ربع دينا، ويقسم أنه لا يملك ما يشتري به طعاماً.
سيدات عراقيات أيضا يفترشن الرصيف، يبعن علب السجائر مفرقة بالحبة.. شباب يعرضون بضائعهم الرخيصة، أو يبيعون اليانصيب، متسولون.. و..تختلط الملامح واللهجات، ويبقى هذا الحزن الذي يطل من العيون.. قاسماً مشتركاً بين الجميع.. يالهذا الزمن الرديء الذي تحتار في وصفه، لكن حيرتك لا تطول كثيراً.. تقف أمام كشك أبو علي، تطالع عناوين آخر الإصدارات التي يستحيل أن تجدها مجتمعة هناك في أرقى المكتبات كما يسمونها.. ما هو مقياس الرقي إذن؟.. ربما الديكورات.. تقع عيناك أولا على (الامريكانلي) لصنع الله إبراهيم..هل هو الجواب؟.. ربما، ترى أيضا (إحدى عشرة دقيقة) لباولو كويلو.. يهمس في أذنك ابن صاحب الكشك.. هل قرأتها؟.. لا، يواصل الهمس: تجنن! إذن ساقرأها، عناوين كثيرة: (لا تعتذر عما فعلت) لدرويش،آخر كتب هيكل، إلى جانب كتاب ماغي فرح الأخير .. ويبدو أنه الأكثر مبيعاً لأن الجميع يسأل عنه.. هل ذلك مؤشر على مستوى الثقافة السائدة؟
تفاصيل، وصور كثيرة تجاوزتها في هذه الكتابة السريعة.. لكنها ستبقى شاهدة ليس على المكان الذي يشهد تحولات سريعة فحسب متأثراً بتحولات وربما كوارث المحيط بل على زمننا العربي أيضا، أو ربما (الأمريكانلي).
كانت تلك أصداء تسكع الأمس أما الآن فربما لم يعد ممكناً المشي أكثر، وعلي أن أعود لأقرأها.. أعني إحدى عشرة دقيقة.


mansourj1@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved