الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 29th March,2004 العدد : 52

الأثنين 8 ,صفر 1425

استدعاء التاريخ (44)
سهام القحطاني
** (مفتتح)
(مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها) مالك بن نبي.
** حتى نستطيع أن نحدد مواقفنا من الأشياء لا بد أن نتعلم كيف نستقرأ الخطاب المعرفي. وهذا الأمر لا يتحقق لنا إلا من خلال استيعابنا للمفاهيم. ولعلي من تارة إلى أخرى أركِّز على قضية المفهوم ومقاييس التأويل؛ لأني أظن أن عدم استيعابه هو سبب تمثيل أزمة فهمنا الخاطئ لقراءة الخطاب المعرفي. وهذا يمحورنا حول هامش قضية الخطاب الحضاري؛ إذ إن القراءة المبتوتة الصلة عن إطارها من مبادئ ومعلومات وخبرات عبر تاريخ تحتمل الخطأ التأويلي الناتج من الإطار الفارغ، وهذا يوسع دوائر التعليلات ويخضعها لتفسيرات غير مقبولة. إن البرهنة على المقولات المحتملة لا تمثل استقراءً للخطاب المعرفي، بل هي جزء من تدعيم التوثيق، وهذا يجعلنا نتَّكئ على مستند لا يرتقي لنص الخطاب الشامل. والخطاب كونه مجموعة من النصوص التي تشكل وجهة نظر تعرض لنا الحياة التي تحتوي على القدرة على تجاوز ذاتها عبر المعنى كما يقول هيجل، والتي تؤول ذاتها فتملك بنية هرمنيوطقية من خلال وحدات الحضارة المختلفة، كما يذهب إلى ذلك غادامير. وما يحدث أن قراءة الخطاب في تأويلنا يتشكل نتيجة تفاعلات لمواقف عشوائية لا ينظمها ناظم، ولا يؤطرها إطار، وهذا ما يوقع الأمة في فخ التراجع الحضاري. ومن المؤكد أن استمرار الحضارات تعتمد على استمرار دياناتها. ولعل الذين اطَّلعوا على الدراسات التاريخية لتويني سيكتشفون أهمية العقيدة الدينية في استمرار حضارة الأمم، فوراء كل حضارة عالمية ديانة عالمية، فالعقائد الدينية هي التي تتحكم في مجرى التاريخ، وهذا ما أدركه جيداً (هينتغتون) (فخمر جديدة في قوارير قديمة). هذه المقولة اللاهوتية أقرب لوصف صراع الحضارات للسيد (هينتغتون) عندما قابل بين حضارة الغرب وحضارة الإسلام كدين لا كأنظمة لتفعيل التكافؤ، في حين أن حضارة الغرب هي مجموعة من الأنظمة السياسية والاقتصادية لا العقائد الدينية. إن نظرية التحدي والاستجابة في حضارات الأمم تعني دخول الأمم في حلزونية الصراع مع الطرف الآخر، وانتقالها من حالة اللين (الركود) إلى حالة اليانج (القوة الدافعة)، وهنا يصبح الفعل وردة الفعل في الصراع توجهاً مؤطراً بتنظيم ما يحمله كل طرف على ممارسة ترجيح موقفه، خارج وسيطية التوازن أو الانسحاب، وفق مظهرين: التزمت والتشكل، وإن كنا نرتبط بالأولى ونفتقد الثانية. فإذا كانت الاستجابة الناجحة في فلسفة تاريخ الحضارات تعني صراع التحدي من أجل الإزاحة، فهل الحوار سيصبح بديلاً ممثلاً للاستجابة الناجحة في تحدي الأمم؟
** حوار الحضارات أو صراعها، يجبرنا على مواجهة قراءة الخطاب المعرفي الأممي وجهاً لوجه، ونحن نقف أمام ثلاث نظريات تشبه تشابك المغلقات؛ أولها: (صراع الحضارات) التي تبناها الكاتب الأمريكي (هينتغتون)، و(حوار الحضارات) التي تبناها المفكر الإسلامي الفرنسي (روجيه جارودي)، و(تعارف الحضارات) التي تبناها المفكر زكي الميلاد. ولكل منهم أنسقة تتداخل وتتعارض، (فإذا اعتبرنا صدام الحضارات بوصفها نظرية تفسيرية، وحوار الحضارات بوصفها نظرية نقدية أو علاجية، فإن تعارف الحضارات هي نظرية إنشائية بمعنى أن القاعدة فيها هي الإنشاء وليس الإخبار، فقد جاءت لإنشاء شكل العلاقات المفترض بين الناس كافة حينما انقسموا إلى شعوب وقبائل) كما يذهب الدكتور زكي الميلاد.
** تتضمن الحضارة تلك الأنماط الضمنية والصريحة الخاصة بالسلوك المكتسب، والمنقول بواسطة الرموز، والذي يشكل الإنجاز المميز للجماعات البشرية؛ كالأعمال الحرفية والتقاليد، والتي تمثل المحور الأساسي للثقافة والأفكار والقيم، وقد تعتبر الأنساق القيمية من ناحية كمنتجات للفعل، ومن ناحية ثانية عناصر شرطية لأفعال أخرى، كما يرى كل من كروير وكلكهوهن. فالذات الحضارية تربى بمنهج التأصيل والتشكيل، وهذا ما يخلق منها قوة منتجة وفعالة.
** إن مقابلة دلالات التفكيك بين الحضارة الإسلامية والغربية، والتي هي فحوى التفعيل، سواء حوار أو صراع أو تعارف، فالحضارة الغربية (فعل تاريخي معقد ومركب، وهي نتيجة جهود تاريخ الإبداع البشري والتطور البشري في التاريخ)، لكن لا ننسى أن أصول هذه الحضارة هي مشترك تراكمي بنائي للإبداع الإنساني العام على طوال الحضارات السابقة، والمقابل الحضارة الإسلامية الممثل للتخلف الفكري والديني والثقافي. إنها ثنائية التخلف والعلم، والهيمنة والضعف، وهكذا سوف يقتصر الصراع حول هذه الثنائيات المتضادة (خارج دائرة التفكير في الثنائيات المجردة السائدة، وعلى رأسها ثنائية الإسلام والغرب؛ لأن الحدود القصوى للتفكير بواسطة هذه الأزواج المفهومية الملغومة ستؤدي في نهاية التحليل إلى سقف التفكير في النور والظلام، والشر والخير، وهي مفاهيم لا علاقة لها بروح المكاسب الفكرية التي بلورت الحضارة المعاصرة في باب الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر؛ حيث لا وجود للخير المجرد أو الشر المجرد، وحيث الأبيض والأسود أسماء لا تحيل إلى مسميات واحدة ثابتة ونهائية) كما يقول محمد أركون.
** نحتاج اليوم إلى تفكيك خطابنا في ضوء التأصيل والتشكيل، وإعادة بنائه وفق المعطيات والإنجازات النظرية التطبيقية للعلوم الإنسانية المختلفة؛ لرؤية الكليات التي يحتويها ذلك الخطاب، من خلال آليات القراءة التأويلية لكشف عيوب ونواقص هذا الخطاب المرموز في ذاكرة الشعوب وثقافاتها. إن الخطاب المعرفي سلطة تابو عرفية، وهذا لا ينكره أحد، وهنا مكمن الخطورة. وبعبارة مختصرة، إن انتقال سلطة الخطاب المعرفي من حقول الأشياء إلى المدار الفلكي للإنسان هو ما نحتاج؛ لتحقيق الاستجابة الناجحة نحو تحدي صراع الحضارات.


sehamha@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved