الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 29th March,2004 العدد : 52

الأثنين 8 ,صفر 1425

ثلاث غيمات
بدر عمر المطيري

تكرم الصديق الشاعر حمد العسعوس ذات مساء جميل.. فأهداني ديوانه الشعري الرابع «ثلاث غيمات».. وبلهفة الظامىء رحت أفتش في الغيمات الثلاث عن أمطار الشعر الباردة.. فلم أجد غير غيمتين ارتشفت منهما حتى الارتواء.. بينما توارت الغيمة الثالثة .. فلا ماء.. ولا شعر.. ولا أمل!
لقد حاول «العسعوس» في مغامرة غير مسبوقة ان يصالح بين اسلوبين متنافرين في كتابة القصيدة.. اراد ان يهدم الحدود الفاصلة بين اللغة واللهجة لاثبات كما يقول في المقدمة «ان الشعر يمكن ان يكتب بأية لغة.. وبأية لهجة.. وبأي شكل من أشكال التجريب».
صحيح ان الشعر يكتب بعدة اشكال.. وبعدة اساليب .. وصحيح ان الشعراء الموهوبين يعبرون عن انفعالاتهم وما تجيش به صدورهم بطرق مختلفة.. وربما متصادمة أحيانا .. لكن اللغة الام لها جوها الذي تعيش فيه وتتحرك.. ولها نظامها الذي تسير عليه ومنه تنطلق كما ان اللهجة الفرعية لها مكانها الذي يلائمها.. ولها مريدوها الذين نعرفهم بسيماهم.. ولحن القول.
لقد أخطأ «العسعوس» وهو المثقف الواعي خريج كلية الشريعة حينما سار مع التيار فدوّن اللهجة في كتاب.. وهي التي تستعصي على الكتابة حيث يحس بها ويجدر أن تبقى في محيط الحديث الشفوي.. او الشفهي.. أجزم أن «حمد العسعوس» شاعر موهوب في اي شكل أبدع قصائده وفي أي مجال كتب أشعاره.. لكن في المقابل أجزم أنه احدث خلطا ولخبطة في الشعر العربي.. بل اساء الى اللغة العربية.. خادما بمغامرته غير المسبوقة أنصاف المتعلمين.. العاملين على تشويه المشهد الثقافي.. والذين لا يحملون غيرهمِّ اثبات وجودهم والظهور بأي شكل من الاشكال..
هذه مقدمة تعكس رأي متابع رأي ضرورة إعلانه قبل الابحار في الديوان المذكور.
في دفتر الغيمة الاولى نقرأ قصيدة عنوانها «الشميم» قيلت بمناسبة مشاركة الشاعر في الاسبوع الثقافي السعودي المقام بدمشق اواخر سبتمبر عام 2003م جاءت القصيدة على البحر الكامل في 27 بيتا.. وهي اشبه ما تكون بالتغزل.. حيث بدا «الشام» المحبوبة والصديقة والقصيدة ..:
يا شام مجدك في الورى متوارث
للمجد فيك شواهد.. وعوالم
يا شام ارضك موئلي ومنازلي
فيها لنا الماضي وفيها القادم
يا شام أنت صديقتي وقصيدتي
كالصبح لا تبدو عليك طلاسم
لك قد لبست من القصيد عمامة
بيضاء يلبسها المحب الهائم
ياشام شمشمت الشآم وشمّها
شمّ.. يشمّ شميمه المتشائم
واذا شممت الشام شمّ شميمها
شمّي وشام عن التشاؤم شائم
والبيتان الاخيران تلاعب لفظي عُرف قديما.. ولم يعد له في الشعر الحديث حضور او اهمية .. من ذلك قول المتنبي.
فقلقلت بالهمّ الذي قلقل الحشا
قلاقل عيسٍ كلهن قلاقل
وكقول الآخر:
ولقد غدوت إلى الحانوت يتبعني
شاوٍ مشلّ.. شلول.. اشول .. شول
وفي شعر شعراء عصور الانحطاط الكثير من ذلك..
وتأتي قصيدة «السؤال» مباشرة بعد قصيدة «الشام» وهي ايضا عمودية «خليلية» .. تحتد في ابياتها عاطفة الشاعر لتكتسب القصيدة حرارة.. وقوة.. وتأثيرا.. حتى ليمكن القول انها «قصيدة الديوان» فهي الاجمل .. وهي الاروع.. تفوق روعتها وجمالها بقية قصائد الديوان.
ليلى تناشدني ان اعزف الوترا
وفي دروب الهوى أن أنثر الدررا
ليلى الفاتنة تتوسل الى الشاعر ان يجود بأشعاره وان يمنحها درر شعرٍ.. لا درر ذهب او فضة.. فيجيء جواب الشاعر بعد ذلك طويلا.. وكأن الشاعر ينتظر احدا يستجديه الشعر ليبوح له بمعاناته مع الذات والحرف والزمن.
ليلى! أنا شاعر.. لكنني كلف
بغير شعري الذي قد جف وانكسرا
ليلى! انا شاعر.. لكنّ قافيتي
بلا وقود.. وليلي يفقد القمرا
كان الشباب وكانت نار اسئلتي
مشبوبة وخيالي يعشق السفرا
ليلى! ارى الركب قد ناءت قوافله
والعمر كالشمس نحو الافق منحدرا
أواه من زمن ينفي قصائده
فلا نرى في نواديه لها اثرا
ليلى! اعيدي الى ليلي كواكبه
واشعلي من شموعي كي ارى الحفرا
تلمّسي في رمادي جمر عاطفتي
واوقدي في ضلوع الشاعر الشررا
قد استوت لغتي والروح ظامئة
لا شيء غير سراب ارهق النظرا
والشاعر الذي يفتخر باستواء لغته الشعرية على سوقها.. يطلب في نهاية قصيدته من «ليلى» الحبيبة ان تفجّر لغة اخرى لطالما فجرها الشاعر واكتوى بلهيبها اذ كان العمر شبابا والغصن رطيبا.
ففجّري لغة العشق التي عجزت
ريح الكهولة ان تمحو لها صورا
وقبل ان نغادر ظلال الغيمة الاولى نشير الى ثلاث قصائد جاءت متتالية.. كل واحدة منها موجّهة الى شخصية فكرية مبدعة لها حضورها وتفردها في مجالها:
الأولى بعنوان: أمير القوافي الى غازي القصيبي..
الثانية بعنوان: حسن ظاظا الى حسن ظاظا نفسه
والثالثة بعنوان: سيد الحكماء في رثاء الشيخ محمد بن جبير رئيس مجلس الشورى رحمه الله .
اما قصائد الغيمة الثانية فهي خمس قصائد يصفها الشاعر بأنها «قصائد فصيحة من الشعر الحديث» وهو لا يقصد الشعر الحديث المتحلل من الموسيقى.. الضارب في الغموض والنثرية.. اذ يصحّ نسبته الى الشعر التفعيلي والذي اجمع جهابذة النقاد.. المنصفون في آرائهم على عدّه شعراً يضاف الى تاريخ الشعر العربي كونه يعتبر تجديدا لا يمس الاصول ولا يخرق قواعد الشعر التي لا يقوم الشعر الا عليها وبها. من قصيدة «المستحيل» يقول الشاعر:
كل شيء محتمل
ما عدا ان تفقد الأضلاع صوت
النبض.. صوت الأرض
في الدرب الطويل
كل شيء محتمل
ما عدا ان تفقد الأغصان
أصوات الهديل
ها هنا.. ينتفض القلب
ويخشى من تفاصيل الغياب
فينادي الكلمات
وجيوش المفردات
وتواقيع «الخليل»
أما «المهرة الفاخرة» فهي عنوان قصيدة جميلة تدور حول «الرياض» عاصمة المملكة وعاصمة الثقافة العربية عام 2000م.
الرياض التي
أدهشت كل من زارها
الرياض التي
يقرأ الناس أسرارها
الرياض التي
يعزف المجد أوتارها
الرياض.. الرياض..
رياض الخزامى.. رياض العرار
رياض النفل
الرياض التي زارها المجد واختارها
وفي آخر مقاطع القصيدة يكشف الشاعر سرّ تشبيه الرياض بالمهرة النافرة.. فيقول:
هنا تستفيق الرياض
بنبض المحبين .. والعاشقين
وفي شهقة الذاكرة
هنا تستفيق الرياض
على شاطىء الرمل
فوق رؤوس الجبال
وفي ردهات الحضارة
كالمهرة النافرة!!
وختاما: فالديوان غيمتان .. او غمامتان لا ثالث لهما.. نتمنّى من الشاعر المبدع ان يبادر الى اعادة طبعه من جديد بعد ان يحذف قصائد الشعر العامي او يستبدلها بقصائد اخرى تتواءم وبقية قصائد الديوان.. ليزيد في بناء صرح لغة الضاد كما فعل في دواوينه الثلاثة الاولى.. فمن خلالها عرفنا الشاعر واحببناه .. اما ديوانه الرابع فربما انه لم يلغِ حبنا للشاعر.. لكنه بالتأكيد كاد يغيّب ملامح الشاعر حمد العسعوس.. ويلقي بعض ظلال الغموض فوق بصمته الشعرية وشخصيته الفنية المستقلة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved