الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 29th March,2004 العدد : 52

الأثنين 8 ,صفر 1425

قصة قصيرة
عطر أرواحنا
خالد محمد الخضري
في اللحظة التي ولجت فيها باب حياتي الأخروية، كان طيف نوال لا يزال عالقاً في شبكة ذاكرتي مثل غيمة وداع دون مطر. هذا ما سأختم به حياتي، وجه نوال الذي دعوت الله أن يكون آخر عهدي بهذه الدنيا.
هاهو موعدي قد حان، أتهيأ بشجاعة لملاقاة الموت الذي يتشبث فينا ليل نهار كشبح نحتال للهروب منه في الوقت الذي نسعى إليه مرغمين.
بين الحين والآخر اقنع نفسي بأنني أفضل حالاً من رجل محكوم عليه بالقصاص، حيث يقبع بائساً في زنزانته، منتظراً أن يطل الجلاد ذات ظهيرة ليقوده مرغماً إلى ساحة يأسه.
يتملكني شعور بالقوة في مواجهة هذا الكائن الغامض الذي اسمه الموت، بعد أن قررت وضع حد لآلامي التي أعيشها لاجري عملية خطيرة في المخ، فالجميع يعرف وأنا معهم ان نسبة نجاحها ضئيل جداً.
قبل ان أتهيأ للذهاب إلى غرفة التخدير، ألحت علي فكرة غريبة شبه مستحيلة.
إذا كنت سأموت فلماذا لا اطلب طلباً اخيراً في حياتي، سيبدو الامر معقولاً، فالجميع يتمنون أن يحققوا امنيات الذاهبين إلى الموت، أما فكرتي المجنونة فهي أن أرى وجه نوال قبل دخولي في غيبوبة المخدر، ولكي لا اضيع الوقت ضغطت بحماس على زر النداء لتحضر على الفور ممرضة وسيمة ذات عينين حالمتين تفصحان عن أنوثة دافئة، لكنها ليست بذات الدفء الذي استشعره قرب نوال.
طلبت منها بعفوية أن تحضر الطبيب.
قالت: هل تشكو من شيء؟
اجبت باقتضاب: اشياء كثيرة.
حين جاء الطبيب بادرته على الفور بفكرتي غير المعقولة ليرد علي:
حسناً، لكن هذا الأمر في غاية الصعوبة كما تعلم، خاصة أنها لا تمت إليك بصلة، ثم ما الذي سيقنع ذويها بفكرتك؟
أجبت بتوجع: أنا إنسان في حكم الميت، فلماذا لا تحقق بالله عليك هذه الرغبة.
ابتسم الطبيب وهز رأسه محاولاً التهرب مما أطلب، فحينما أدار ظهره مغادراً سريري قال لي مواسياً.
الأعمار بيد الله، وأنا على يقين بأنك ستشفى وستذهب إليها..
***
في المساء زارني شقيقي أحمد، وقبل أن يستقر على كرسيه أمام سريري، عرضت عليه فكرة حضور نوال، مط شفتيه مندهشاً، ثم تدارك وضعي الحرج قائلاً:
ما الذي جعلك تهجس بها الآن، دع الأمر لي وسأحاول، فربما يعلمون بحالك ويأتون إلى هنا، فهم على أي حال أهل جوار طيبون.
بدت نبرة أخي مترددة، تشي بعدم اليقين، ولهذا كان انتظاري له في مساء اليوم التالي مريراً، كنت أعد به الدقائق والثواني، وأنا أئن على فراش المرض، أشعر بالوقت المريض يزحف على أيامي بطيئاً كرجل مقعد بلا عكازين.
حين أطل علي ذلك المساء بوجه حائر أدركت بُعد أمنيتي، فبادرني أخي بقوله:
والدها يعتقد بأن هذا خرق للتقاليد والعادات، وبدأ يثرثر دون أن أصغي إليه، لأني كنت هناك أمام بيتنا ألعب مع طفلة سمراء ذات جديلتين تتأرجحان مثل بندولين وهي تنكب على دفن كراتها الزجاجية في التراب طالبة مني بخبث أن أعثر عليها، بينما هي تخبئها في جيب فستانها الصغير، فأضطر إلى العراك معها حتى تشق جيب قميصي أو أشق جيب فستانها ليعثر كل منا على صاحبه في أحلام اليوم التالي.
نوال تلك التي خبأت لها عشرات الرسائل الملتهبة بالشوق في شقوق الجدران، وعلب الكبريت، وفي فتحات شباكها ذي الستائر الزرقاء خلف أخشابه البنية المتآكلة.
ها أنا على فراش المرض، تعود روحي إلى زهوها البعيد نحو نوال، تلك المرأة الضاجة بالحياة، مهرة حرنة يسيل صهيلها في وديان روحي مثل ماء نهر مندفع بلا هوادة.
عندما زارني أحمد في المرة التالية قال لي:
بذلنا كل جهد حتى اقتنع والدها أن تراها، لكن بعد أن يتم عقد قرانكما، وعليك أن تحرر لي ورقة برغبتك الزواج منها لنتم الأمر.
بدت هذه الفكرة أيضاً مجنونة وأنانية، أن تتحول عروس في ليلة زواجها إلى أرملة، لكنني حررت لأخي الورقة المطلوبة، وظللت اتساءل: ما الذي أقدمه لنوال حينما أودع الحياة، فكيف بها أن تكون زوجة وأرملة في آن واحد، حيث تتداخل فرحتها ببشاعة الموت الذي انتظره بين لحظة وأخرى.
***
في صباح مبكر حملت في سريري عبر ممر طويل إلى غرفة لامعة، شديدة الضوء، حشر أنفي بكمامة بلاستيكية يتدفق منها بخار بارد نفاذ.
أثناء خضوعي للبنج، كنت اسمع صوت نوال، انصت لهديلها الخافت في داخلي كحمامة وهي تقول لي:
نم يا حبيبي، نم واحلم بي، إلى أن تعود العصافير من رقدتها، نم وامش خلف صمتي يا حبيبي، إلى أن يتدفق المساء عن عطر ارواحنا.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved