الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 29th May,2006 العدد : 155

الأثنين 2 ,جمادى الاولى 1427

أطفئ فانوس قلبي(قراءة ثانية)
د.عادل ضرغام
إن القراءة النقدية التي يقدمها النقاد للأعمال الأدبية، تظل في بعض الأحيان في حاجة إلى مراجعة وإعادة نظر، لأن الناقد في القراءة الأولى، ربما يقع تحت تأثير جزئيات غير مهمة، وربما كان مشدودا في ذلك السياق إلى تجاربه الخاصة، فيحدث أن يهمل تحت تأثير ذلك جزئيات في العمل الأدبي تستحق التوقف وإمعان النظر فيها كثيرا.
كل هذه الأفكار جالت بذهني، وأنا أجد نفسي مدفوعا للعودة إلى ديوان (أطفئ فانوس قلبي) للشاعر محمد حبيبى، وقلت ربما تكون لغة الشاعر هي التي نصبت شركا لهذه العودة، وربما تكون بنية الديوان نفسه وتوزيع قصائده وفق نهج تبويبي خاص، هي السبب الأساسي في معاودة القراءة، ولهذا حاولت التوقف مرة أخري عند هاتين الجزئيتين، لاستجلاء ملامح التميز والتفرد.
بنية الديوان
هل يمكن أن نتحدث عن ديوان موضوعي قائم على إضاءة تجربة كاملة؟
إن نظرة فاحصة إلى معظم الدواوين الشعرية المعاصرة، ستثبت أن وجود الديوان الموضوعي قليل جدا، ولكي نتبين مدى مشروعية هذا الحكم يجب أن نشير إلى أن الديوان الموضوعي هو الديوان الذي يقوم بتقديم منحى فكري معين، بحيث تتجاوب القصائد فيما بينها لخلق أو لإيجاد أو تشكيل هذا المنحى الدلالي الخاص، إن أغلب الدواوين المعاصرة غالبا ما تحتوي على قصائد تنتمي إلى فترات زمنية متباعدة، وتصنف إلى مناح فكرية متباينة.
ولكن هناك بعض الشعراء في السنوات الأخيرة أصبحوا يدركون قيمة هذا المنحى الخاص بالديوان الموضوعي، وخاصة مع بداية نضج شعراء التفعيلة، ولعل أهم هذه الدواوين (رباعية الفرح) لمحمد عفيفي مطر، حيث يعتمد الشاعر في بنائه على مقولة امباد وقليس، و(الأخضر بن يوسف ومشاغله)، لسعدى يوسف، وفيه يحاول الشاعر أن يتناول شعريا المسافة الفاصلة والجامعة في الوقت ذاته، بين الانسان والظل، أو بين الانسان والشاعر.
والتأمل لديوان (اطفئ فانوس قلبي) للشاعر محمد حبيبى يدرك أنه أمام شاعر لديه وعي ببنية الديوان الموضوعي، فالديوان وزعت قصائده، تحت الأجزاء الآتية: (محض كلام - نصوص البيت - صلصال يدمع - منمنمات الغبار - هدوء أخير) إن الديوان في منحاه الفكري، يحاول أن يشكل تجربة التحول والتغيير من إدراك معرفي فطرى قائم على الأمل والحلم ومشروعية التمسك بذلك الحلم، إلى إدراك معرفي جديد يرتبط بالقنوط والانعتاق من الإيمان بسلطة الحلم والأمل، من إدراك يؤمن بدور الشعر والكتابة، إلى إدراك يتهشم من خلاله هذا الدور، كما قال في آخر نص من نصوص الديوان:
(ها هنا يستوى أن ترتب مشروع نص ونوم) والشعراء الذي يشعرون بهذا التحول قليلون، وأقل منهم الذين يعبرون عن هذا التحول في نسق إبداعي شعري، وربما كان احمد عبدالمعطي حجازي فارساً في هذا السياق، وخاصة قصيدته (الأمير المتسول)، وربما كان شعر حجازي نموذجاً واضحاً لهذا التحول، فديوانه (مدينة بلا قلب) ما زال الديوان المفضل عند أغلب النقاد، في حين أن شعرية حجازي ربما تظهر واضحة وجلية في أكثر دواوينه شعرية، في ديوان (كائنات مملكة الليل)، ولكن النقاد الذين أذهلهم التدفق الفطري لشعريته الأولى في (مدينة بلا قلب)، لم يستطيعوا أن يدركوا حجم التغيير الذي لحق بإدراكه ووعيه، فاعرضوا عن شعره في (كائنات مملكة الليل)، و(أشجار الأسمنت) فمحمد حبيبى في هذا الديوان يقدم إطارا بنائيا لهذا التحول وأسبابه، بداية من الانهزام والتشظي تحت تأثير واقع لا يرحم، وتحت تأثير الرتابة الخاصة، التي أفقدت مشروعية الحلم حقها في الوجود.
إذا توقفنا عند الجزء الأول (محض كلام)، وهو لا يحتوي إلا على نصين (مشابك) و(...) أدركنا أن هذين النصين يمثلان البداية والنهاية، فالأول يقول فيه الشاعر (في الصبح نحمل أحلامنا لنجففها - وكي لا تطير بعيدا - نثبتها بمشابك - المشابك محض كلام) فهذا النص يمثل المتخيل وسطوته من جانب، ومن جانب آخر يمثل مشروعية الإيمان بهذا المتخيل، وهذه الأحلام حتي لو كانت هذه المشروعية واقفة عند حدود الانكسار إليها، ووضعها وتثبيتها في مكان ما عند حدود البصر أو الأفق.
أما النص الذي يمثل الوجه الثاني الذي انتهي إليه فهو النص الذي يأتي في الصفحة التالية بدون عنوان (...) يقول فيه (سنة كاملة ننتظر - ننزع ورقات التقويم - بدلنا قطعات أساس، ديكورات - لبسنا الأطفال جديد ثياب - أترعنا علب الحلوي - لم يتبق سوي البسمات - ألصقناها - ومضينا مع فرحة أيام العيد) إن القصيدة تمثل الوجه المقابل لمشروعية الحلم السابقة، فالانتظار معادل الترقب لتحقق المتخيل السابق، ويتجاوب معه في ذلك السياق نزع أوراق التقويم، ومحاولة التغيير الظاهري، من خلال تغيير الأساس، ولكن البهجة ظلت بعيدة والبسمات مصنوعة، يتم إلصاقها إلصاقا.
إن هذا السأم والقنوط الذي انتهى إليه الشعر يتجلي واضحا في نهاية الديوان، وخاصة في قصيدته (ليس مهما) حيث يبدأ في الظهور توجه جديد، ينبع من فقد الإيمان بقدرة الحلم والأمل والكتابة في تغيير واقع الفرد والجماعة، حيث يصبح الفتور والعجز والرتابة محركات أساسية لنصه القادم.
إن شعرية محمد حبيبي المنتظرة في الديوان القادم، سوف تكون مغايرة تماما، لشعريته في ديوانيه السابقين (انكسرت وحيدا) و(اطفئ فانوس قلبي)، لأن إدراكه العالم قد تغير، ووعيه بالعالم وجزئيات الواقع قد تبدل، إلى إدراك ووعي جديدين، سوف يحملان من خلال التشكل التركيبي لقصائده سمات فنية جديدة.
اللغة
إن خصوصية محمد حبيبي تأتي في المقام الأول ماثلة في اللغة، فلغة محمد حبيبي لا تشبه لغة أحد من مجايليه أو سابقيه، فهي لغة تنفرد بوهج خاص، بريئة من مس الآخرين، وتصنع تفردها من عاديتها التي توهم الآخرين بسهولة نصه الشعري، ولكن التأمل الدقيق يثبت أن هذه السهولة ليست إلا بساطة تركيبية، يندرج تحتها مدي دلالي واسع.
فهي لغة تعتمد على المفاجأة الهادئة، التي تحاول إعادة بناء العلاقات الجديدة، بعيدا عن الممهد والمقرر، فعلي سبيل المثال يقول في قصيدة الجدران (الجدران جلود ندبغها - شهقات، فتحات مسامير - ضحكات - عارية - نتركها تنتظر).
إن فهم ذلك النص الشعري يبدأ من المثير الأساسي وهو الجدران، ويتكون تدريجيا باستحضار الخبر جلود، مع الوضع في الاعتبار التمدد التركيبي القائم على التمييز (شهقات - فتحات مسامير - ضحكات) إلى جملة الختام المرتبطة حتما بنسق بنية الومضة الشعرية أو عارية نتركها تنتظر.
قد يكون المدخل السهل لفك طبيعة هذه العلاقة التركيبية الجديدة، ما يشاع في كتب النقد عن أنسنة الجماد، ومحاولة إدخاله في نطاق يشع بالحيوية والحياة.
ولكن المدخل المناسب، والذي ينبع من طبيعة شعر محمد حبيبي، ربما يكون ماثلا في محاولة إدراك ما لا يدرك، واختزان وتكديس ما لا يختزن أو يكدس داخليا، فالقصيدة تشير إلى لمّ ذكري من رحلوا، ومن ثم فالقصيدة تنبع من لحظة تأمل هذه الجدران، التي حملت عبق السابقين، وحركة الأحياء المقيمين، الذين يتركون شهقاتهم عليها، وبقايا آثار المسامير للإطارات التي كانت معلقة، والضحكات، وعلى هذا الأساس فالعلاقة الجديدة (الجدران جلود) تفسر تدريجيا من خلال التمدد التركيبي، فلا يشعر المتلقي بأية صعوبة أو معاضلة في هذا الربط، فالجدران تتحول إلى شاهد عيان على قدوم أناس وإقامتهم، ومن ثم على رحيلهم، ومن ثم قد تتحول القصيدة إلى حالة استبصار حياتي لطبيعة الوجود، التي لا تقف عند صورة أو هيئة واحدة، ولهذا كانت الإشارة إلى الشهقة والبكاء والضحك.
ويتكرر هذا المنحى الخاص والمرتبط بمحاولة الإمساك بما يفسر كثيرا في شعر محمد حبيبي، ويأتي في الأساس مرتبطا بمحاولة إنشاء علاقة تركيبية جديدة، ربما تكون هذه العلاقة صادمة للمتلقي للوهلة الأولى، ولكن بعد معاينة النص كيانا كاملا، يختفي هذا الاستغراب.
إن لغة محمد حبيبي تتسم بسمة أخري، ربما تكون منطلقة من التوجه التركيبي السابق، الذي يرتبط في الأساس بإدخال الكلمات في إطار تركيبي جديد، ولكن هذه السمة لا تبقي على هذا التوجه، وإنما تنطلق منه لإحداث حالة وجد تقوم بها الذات في الارتباط بجزئيات المكان.
فمحمد حبيبي في شعره لا ينفصل عن المكان، بل على الأصح يحاول أن يرصد علاقة الذات بهذا المكان، فالأماكن في شعره ليست صامتة، وليست مجرد جزئيات مادية، يحاول أن يبث فيها الروح، أو مجرد جزئيات تتصارع الذات معها للانفلات من أثرها، كما كان يفعل شاعر التفعيلة التقليدي في الخمسينيات والستينيات، وإنما أصبحت جزئيات فاعلة، تشكل وجهة النظر وزاوية الرؤية، يتجلى هذا واضحا في قصائد عديدة مثل (حديث) و(حاجز) و(غبار).
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved