الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 29th May,2006 العدد : 155

الأثنين 2 ,جمادى الاولى 1427

صدى الإبداع
حمزة شحاتة (1909 - 1972م) (2- 8)
د.سلطان سعد القحطاني

التكوين:
نعود فنقول: إن التعلم لا يكفي لأن ينتج عبقرياً أو مبدعاً فناناً، لكنه واحد من مفاتيح العملية الفنية، والشاعر الفنان الأديب الموهوب حمزة شحاتة تعلم في مدارس الفلاح، ذلك الصرح العلمي المرموق، مع عدد ليس بالقليل من الطلاب، وبعد مقاعد الدرس اختلف كل منهم إلى شؤون الحياة، ومنهم من امتهن ما أمتهنه حمزة نفسه، في مجال الثقافة - بشكل عام- لكن ثقافته كانت من نوع يستقبل ويعيد الإنتاج برؤية جديدة، وليست الثقافة التي تستقبل فتخزن ما استقبلته، ليبقى في مخزون الذاكرة، أضف إلى ذلك كونه لم يستقر في مكان وظيفي واحد يجعل منه نسخة مكررة في كل الأحوال، فما بين الحجاز، موظفاً، إلى عمله في المكتب التجاري لأحد التجار الحجازيين في الهند، وامتزجت ثقافته بالثقافة الشرقية (الهندية) وما فيها من فلسفات متعددة.
كانت بداية التمرد في ذلك الموقف الذي اتخذه حمزة في ذلك اليوم الذي دخل فيه إلى مدارس الفلاح في جدة، عندما رفض الجلوس في الصف الأول بحجة أن الطلاب الذين فيه يصغرونه سناً ولن يجلس معهم، بل اختار فصلاً متقدماً يجلس فيه من هم في سِنّه، متحدياً في ذلك قوانين المدرسة، لكنه أثبت جدارة علمية استطاع من خلالها السير في نفس المستوى، متحدياً كل من سبقه في الدرس والتحصيل، فمن دراسة جديرة بالاحترام، قام بها الدكتور عبدالله الغذامي، ومن خلال بحث ميداني أجراه الباحث مع المقربين من حمزة شحاتة، ومنهم ابنته (شيرين) البنت الكبرى من بين خمس بنات، هم ذرية الشاعر حمزة شحاتة، ننقل هذا النص، ليكون مدخلاً لنا في دراسة تكوينه الفكري والعلمي:
(في صباه بعد أن تقدمت به خطاه إلى خارج البيت وانتقل مع أخيه إلى جدة، أخذه أحد آل جمجوم ممن كان يولي حمزة عطفاً وحباً، إلى مدرسة الفلاح ليتعلم فيها. ولمّا دخل هذا الصبي الفاره القوام إلى الصف المقرر له، ووقعت عيناه على من سيكونون زملاء صف له، فوجئ السيد جمجوم ومعه المدرس بأن الصبي حمزة يرفض الجلوس في هذا الصف، ويأبى حتى الوقوف أمام الطلاب ويخرج إلى الممر قائلاً: لن أدرس هنا. هؤلاء صبية صغار وأنا كبير وأريد أن تأخذوني إلى صف أكبر من هذا. ولم يجد معه أي إصرار من الرجلين كي يقنعاه بأن الكبير فيه هو جسمه لا عقله. ولكن الصبي يفرض قراره على الرجلين فيأخذانه إلى صف أكبر. وهناك يجلس حمزة ليتعلم مع الدارسين الذين سبقوه في زمن تحصيلهم العلمي، ولكنه يدخل في الحلبة فما يلبث أن يبز زملاءه ويتعلّى عليهم، بل إنه يتمادى في ذلك حتى يدخل كمنافس عنيد لأحد الأستاذة في المدرسة وهو الشاعر محمد حسن عواد، حيث يأخذ حمزة في كتابة الشعر وما يلبث أن يدخل في مهاجاة حادة مع العواد طال زمنها وارتفع شأنها حتى نشر عدد من قصائدها في صوت الحجاز لكل من الشاعرين).
ويعلل الدكتور الغذامي هذه الحادثة بأنها فاتحة الطريق أمام إصرار شحاتة وعناده في الكثير من المواقف في حياته، وأنها علامة مميزة لكل تصرفاته. ونوافق الدكتور الغذامي على أنها علامة غريبة في عالم العلم والمعرفة، وإن كانت علامة تساهل في طلب العلم وجذب الطلاب للتعلم، لكنها -من وجهة نطري الخاصة- لم تأت من فراغ، بل إن تكوين حمزة شحاتة قد فرض عليه الشدة والعناد والتمسك بمبدأ عام لم يحد عنه طول حياته، بل إنه قد دفع الثمن غالياً بسبب هذا السلوك، فلم يداهن ولم ينافق ولم يتنازل عن حق مشروع، بل أنه لا يرضى بأنصاف الحلول، ويقبل التحدي مهما كانت النتائج. لقد قلت في المقدمة أن هذا الرجل لم يأخذ حقه، حياً وميتاً، فقد حورب في كل شيء حتى في نفسه، وما مرد ذلك إلا لأنه من الناجحين، فقدراته العقلية أهلته لأن يبز أقرانه من الدارسين منذ اليوم الذي دخل فيه مدرسة الفلاح في جدة إلى اليوم الذي انتقل فيه إلى جوار ربه. وقلت إنه درس كما درس غيره من الطلاب، واكتفى كل منهم بما حصل من الشهادات وارتزق بها، أما حمزة فلم يقنع بما حصل بل واصل البحث والتعلم ينشد المعرفة في مظانها، بيد أن الكثير من معارفه كانت نتائج مواقف لم يقنع عقله الكبير بها، يؤكد ذلك من جايله في صباه وكهولته، حتى إذا ما شب وصار فتى من خيرة فتيان الحجاز علماً وثقافة، أخذ يتعهد نفسه بالقراءة والمطالعة في بطون الكتب، وصارت تلك عادة له وطبعاً فيه لا يرضى فيها إلا أقصى غاياتها. (إن خصيصة حمزة التي تبدو خليقة من خلائق العبقرية النادرة، هي القدرة على إتقان ما يولع بإتقانه، بحيث لم يكن يرضى قط إلا بأقصى مراتب التفوق فيما يعن له أن يعنى بمعرفته ودرسه). ولعل العبقرية التي تحدث عنها عزيز ضياء نابعة من العقل الكبير الذي لا يرضى بأقل مرتبة ولا بنصف الحل ولا يقلد من سبقه، بل يأخذ ويناقش ويعيد النظر فيما يمر به من معارف، ولا يسلّم بمقولات الآخرين، في غير الثوابت. هذه الخصيصة هي التي تفرق بين مقلّد ومجدد ومبتكر، والمبدع الحقيقي من لا يرضى إلا بالشيء كاملاً غير منقوص، ويقرأ فيتأمل فيما قرأ، ويحاور للوصول إلى نتائج مقنعة وليست مرضية، بل إن البحث عن الحقيقة في كل الأحوال يحتاج إلى مشقة وعناء ومكابدة، ومن يقول بغير هذا فقد ظلم نفسه وظلم الآخرين معه، ولعل شاهداً واحداً يؤكد ما ذهبنا إليه في السطور الماضية، ويكاد أبناء جيله أن يجمعوا على هذا الرأي، فقد روى محمد حسين زيدان بعض ذكرياته عنه بقوله (إن حمزة شحاته هو الفاصلة في مقدمة الطليعة.. والتحدي فيه أن يرفض كل ما يتصور أنه النقص يوسف به. وإذا ما عرف أن بعض الشباب يدرسون الرياضة العليا غاب في صومعته عن رؤية الناس ليدرس حتى إذا ما تم له العلم جاء يرفض استعراض العضلات أمامه، ليستعرض عضلات الفكر والعلم).. وللحديث بقية في الحلقة القادمة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved