الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 29th May,2006 العدد : 155

الأثنين 2 ,جمادى الاولى 1427

الكتابة الإبداعية وصدى الجاحظ!
في ثقافية الاثنين 3 ربيع الآخر العدد 151 قرأت تحت عنوان: القاصات والشاعرات.. رأياً عجبت له، وفيه تقول الكاتبة منى العصيمي: تصنيفات الكتابة البداية كانت للناقد الدكتور صالح زياد، إذ أشار إلى أن أسس تصنيف العمل الكتابي قائلاً: الكتابة الإبداعية لا تصنف من وجهة أدبية لموضوعها، ولكن لشكلها وأسلوبها.
وكأني بصاحب هذا القول يردد صدى الجاحظ، إذ يرى أن المعاني ملقاة على الطريق يتناولها البدوي وكل صاحب قلم، وإنما التفاضل بالألفاظ، وهذه النظرة الجاحظية نرى عكسها تماماً لدى إمام البلاغيين عبدالقاهر الجرجاني في مقدمة كتابه (أسرار البلاغة) يقول في ص 2-3 ما يأتي:
اعلم أن الكلام هو الذي يعطي العلوم منازلها، ويبين مراتبها.. ومن البين الجلي أن التباين في هذه الفضيلة ليس بمجرد اللفظ.. وهذا الحكم أعني الاختصاص في الترتيب يقع في الألفاظ مرتباً على المعاني المرتبة في النفس المنتظمة فيها على قضية العقل.. فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراً أو يستجيد نثراً، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ، فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وحلو رائع، فاعلم أنه ليس ينبيك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف وإلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده.
إن المتأمل في جوهر الإبداع يراه يرد إلى أمور ثلاثة:
1- في الشكل. 2- في المضمون. 3- في الموضوع.
الإبداع في الشكل أنجب (البديع) في العصر العباسي، فقد بحث الشعراء المولدون عن أسلوب شعري يناسب واقعهم، فشعراء عمود الشعر عرب ولهم انتماء، أما هؤلاء فلم يعرفوا البادية ولا انتماء بهم إليها، فكيف يقفون على الأطلال؟ إنهم لم يهجروا الأطلال فقط بل هاجموها كما قال أبو نواس:
عاج الشقي على رسم يسائله
وعجت أسأل عن خمارة البلد
وقد ظنوا أن قول عنترة حق، إذ يقول:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
ظنوا أن المعاني استنفدت ولا جديد فيها فاتجه بهم فنهم إلى الشكل يتفننون فيه، وكان إحساسهم اللفظي نامياً نمواً مفرطاً يتجلى في مجازئ البحور كما نرى عند بشار بن برد:
ياليلتي تزداد نكرا
من حب من أحببت بكرا
حوراء، إن نظرت إلي
ك سقتك بالعينين خمرا
وتخال تحت لسانها
هاروت ينفث فيه سحرا
وتخال ما جمعت علي
ه ثيابها ذهباً وعطرا
أما الإبداع في المضمون فما أكثر السرقات فيه! وجديد المبتكر قليل، وقد قال النقاد: إن الجديد في ديوان أبي تمام كله لا يتعدى إضاءات ثلاثاً كقوله:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
يقولون: لو أن هذا المعنى نظم في أي لغة من لغات العالم لكان رائعاً، فكيف وأن أبا تمام أخرجه في أحسن نظم وأجمل سبك!
أما الموضوعات فهي لدى النقاد ثلاثة:
1- تقليدية كالفخر بالشجاعة والكرم..
2- تقليدية وقع فيها التجديد كمديح الخلفاء بالتقوى والزهد والعدل، وتحول صورة البطل الفرد إلى الرمز.
3- موضوعات مبتكرة كوصف المخترعات الحديثة من طيارة وهاتف وكمبيوتر.. قال الشاعر:
بالكمبيوتر قد ولهت صبابة
العقل مني وهو قد أضحى الصدى
صورت معنى في الضمير، وجدته
في شاشة التلفاز ريان الندى
من دون تحريك الأصابع يمنة
أو يسرة، والشوق للحادي حُدا
فعجبت قلت: السحر في نفثاته
يلقي القريض بشاشة غضا بدا
وتبرعم الإحساس، أو رق صخره
وبدت أزاهير الندى هبة الجدى
وغدا (الجوكندا) يحيّر ناظري
أهو العبوس أم ابتساماً غردا؟
وغدت سواحل مهجتي غرقى الهوى
فالموج بالإحساس كان تمردا
فكبست زر الكمبيوتر قلت: قف
لا تكتب الإحساس، شعريَ عربدا
فبكت عيون الكمبيوتر دمعة
حرى وقال: الشعر عندي فندا
سأحطم الأشعار ميزاني غدا
شعراً حديثاً لا يروق على المدى
سأصوغ شعري للأديب متكنطا
فهي الحداثة، يا أديب تنهدا
الإبداع الشعري في الموضوعات بدأ مع الشعر قبل امرئ القيس وقبل تقييده للأوابد، بدأ مع أحيحة اليثربي بن الجلاح المتوفى نحو سنة 130 قبل الهجرة حينما شق للشعراء في عالم القصة طريقاً فاتبعوه، ونسجوا على منواله وأبدعوا ولا سيما منهم الشعراء الصعاليك، إذ يصور شاعرهم الشنفرى في لاميته غارته الليلية:
وليلة نحس يصطلي القوسَ ربُّها
وأقطعه اللائي بها يتنبل
دعست على غطش وبغش وصحبتي
سعار وإرزيز ووجر وأفكل
فأيمت نسواناً ويتمت إلدة
وعدت كما أبدأت والليل أليل
وأصبح عني بالغميصاء جالساً
فريقان مسؤول وآخر يسأل
فقالوا: لقد هرت بليل كلابنا
فقلنا: أذئب عسى أم عس فُرعل؟
فلم تك إلا نبأة ثم هومت
فقلت: قطاة ريع أم ريع أجدل؟
فإن يك من جن لأبرح قاعداً
وإن يك إنساً ماكها الإنس تفعل
وكان امرؤ القيس التلميذ النجيب الذي تتلمذ على القصة الشعرية التي استقاها من الشعراء الصعاليك؛ الشنفرى وتأبط شراً.. ثم جاء الأدب المخضرم بقصة كرم للحطيئة، ثم في عصر صدر الإسلام نضج هذا الفن القصصي وروائعه على يد عمر بن أبي ربيعة ثم الفرزدق في (ليلة ذي دوران) إلى أن جاء العصر العباسي بخمريات أبي نواس وإبداعاته التي استقاها من الخليفة الأموي يزيد الفاسق الذي قتل بسبب فسقه، وناهيك روائع المتنبي في موضوعات منها الحمى ووصفه لبحيرة طبريا التي تلد السمك.
(وما تشتكى وما يراق دم)
وصولاً إلى العصر الحديث..
كان هذا التجديد في الشعر.. ولنقف على صور من التجديد في النثر والإبداع فيه قديمه وحديثه.
نبدأ من الجاحظ الفنان في روائعه مع بخلائه، ألا يرى الباحث أو الناقد تجديداً في تلك الموضوعات؟ البخل صفة من صفات الانحطاط الإنساني. جاءت الأديان السماوية بقيمها العليا لترفع البخيل عن الأرض، فكيف صور الجاحظ هذه الصفة؟
صورها في الديوك، فلديهم في أصل الطبع غريزة الإيثار يلتقط الحبة ثم يقرقر داعياً دجاجاته ليقدمها إليهن، أما ديكة أهل مرو فإنها تسرق الحبة من مناقير الدجاج؟!
المروزي عاشق زوجته، ومع ذلك فهو لا يريد أن يبيت معها خشية أن يدعو ذلك إلى الطهارة، فمستلزم ذلك إضرام النار لتسخين الماء للاغتسال، وهذا شيء مكلف للبخيل.. لذلك يرى الجاحظ أن هذا البخيل يبيت عزهاة - أعزب - حتى لا ينفق على نفسه لمتعة أباحها الله له بل وأثابه عليها..
بديع الزمان الهمذاني إذا غربلنا مقاماته ألا نخرج بشيء من إبداع في تلك الموضوعات التي هو أبدع وجودها أصلاً.. وفي العصر الحديث.. الكاتب الساخر إبراهيم عبدالقادر المازني يريد أن يضحك الناس بعد موته كما كان يضحكهم في حياته..
ولنتوقف عند علم من أعلام الأدب ما أنصفه التاريخ ولا الأدباء ولا النقاد، وهو فقيد الأدب العربي الإسلامي مصطفى صادق الرافعي رحمه الله تعالى، نتناول كتابه (وحي القلم) أول مقالة في جزئه الأول (اليمامتان)، (واهاً لك يا عمر - عمرو بن العاص فاتح مصر - ما ضر لو عرفت اليمامة الأخرى). ومقالة (حديث قطين) قط سمين رمز العبودية والذل، وقط ضعيف هزيل رمز الحرية.. وفي هذه المقالة فلسفة عجيبة يعجز جان بول سارتر عن استحضارها وجان جاك روسو عن أدائها، وحري بنا في صراعنا مع إسرائيل أن نعلّم هذه المقالة لأبنائنا وبناتنا في مؤسساتنا الثقافية كلها في الوطن العربي، وأن تترجم إلى لغات العالم لتقف عليها أجيالنا المسلمة غير الناطقين لغة الضاد.
ومقالة (قبح جميل) أنا أسأل الدكتور صالح زياد حفظه الله: هل سمعت بالقبح الجميل؟ هذه الفلسفة الإنسانية (القبح الجميل)، فهل سبق أحد من كتاب العرب أو المسلمين أو الإنسانيين في لغات كلها العالم في أي زمان ومكان من عهد اليونان الفلسفي زمن سقراط وأفلاطون وأرسطو إلى عهدنا هذا من وصف القبح بالجمال؟ ولنختم حديثنا عن الرافعي صاحب الكتب الآتية: رسائل الأحزان - حديث القمر - السحاب القمر - أوراق الورد..
مسك الختام
الشمس والكواكب نار
ولكنها على الدنيا نور
أما وجهك يا حبيبي فنور
ولكنه على قلبي نار
(أوراق الورد)


د. أحمد الخاني

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved