الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 29th May,2006 العدد : 155

الأثنين 2 ,جمادى الاولى 1427

قصة قصيرة
أيام.. كلون السحاب
حصة العتيبي
كتضاريس الوهم وهي تتكئ على مشارف السحاب ثم تدنو لتشرب لون العمر فتحيله بهتانا وصقيعا لا يطاق.. كأن جسدها الناحل خلخال غجرية يضربه ويتلاعب به السفر من تحت أقدامها ليرقص مجاريا حركة القدم الغض، لينتهي به المطاف أخيرا ثاويا يتأوه ويردد أغنية للتعب والغياب، تتقاذفه احتمالات جولة أخرى.. تحت القدم الغض.. وبين أصوات المعجبين الحيارى.. رحلة أخرى لا يدري متى تنتهي.. وكيف تبدأ.. وإلى أين تسير.
هكذا.. ما كانت جلستها وهي تتربع الطريق المقفر سوى لون أيامها السوداء.. وصوت ابنتها الصغيرة وهي تشتكي من الجوع وانحناءة ظهر طفلها الصغير الذي انزوى خلف سياج حديقة مهترئة.. لعله يجد بين الصدأ بقايا طير ميت يسد به جوعه.. أو ربما يجد معبرا للناحية الأخرى التي يقطنها بعض الأغنياء.. الأغبياء.. لعله يلتقط من بين أيديهم البخيلة قرشا أو حتى لعنة تصيبه بالافاقة فتشعره ببؤسه ليقتنع بأنه ما زال يشرب البؤس ويعيش في حدوده.
.. هكذا كان يطلق عليهم عبارته المميزة بينه وبين والدته (الأغنياء الأغبياء) ويتندر على أشكالهم الأنيقة، والنظافة التي تشعره بالتقزز منهم ومن أشكالهم المرتبة.
أنين الجوع بات واضحا على الجسد المنحني بقوه يرسم السواد خلف عيني الصغير النائم وهو منطو كأنه سعفة نخل تلعب بها الريح يمنة ويسرة.
واليد الحانية تلعب بشعره المبعثر لعلها تخفف من وطأة الجوع الذي تزامن مع الريح وهي تصفر فيتحدا لتزداد المعاناة ويشتد برد الأطراف.. وجوع الأعين.. وخوف الخطوات المتعثرة.
خلف ذلك السور المهترئ تكومت لحظة حزن مباغتة في عينيها الغائرة.. فالحزن كثير في أحداقها.. لكن اللحظات المباغتة تأتي فرادى أحيانا فتجعل المرارة أقوى وأصعب..
جلست وهي تفرك رأس الصغيرة تبحث ربما عن حشرات مؤذية تطرد النوم عن عيني الصغيرة فتجعلها متيقظة من حالة الهم التي تعتريها وهي تنظر نحو السحاب المغادر لجهة أخرى من الأرض، تتمنى لو تمتطي ذلك السحاب وتهرب من واقعها البائس، تتمنى لو تسرج خيلا وتوقد ظلا منطفئا بشمعة أمل وتهرب بعيدا عن هذا الألم الذي بات يسيطر على معظم الشعور داخلها.
في صباح اليوم التالي جذب ابنها الجائع رداءها البالي بشدة وقال لها: انظري يا أماه هناك قافلة جياع قادمة نحونا، ربما أشفقوا علينا من بؤس الطريق وقسوة الشتاء، ربما سمعوا أنين أختي الصغيرة على بعد أميال وجاؤوا ليشاطرونا الألم.
ابتسمت والدته وقالت: إنما هم مجموعة من المشردين جاؤوا، ربما، لسرقة الألم ومشاطرتنا البؤس وحرماننا حتى من الهدوء الذي نجده بجوار الصدأ، وصوت السور الحديدي، ونقمة أغنيائك الأغبياء وهم يشاهدوننا ننظر اليهم بشفقة لا تحرك داخلهم إحسانا ولا رحمة.
ربما قذفهم نحونا موج الفقر، وقسوة الأيام.. لا تستعجل.. سنعلم بأمرهم حينما يصلون إلينا.
عندما اقترب الجمع رأت والدة الصغير في مقدمتهم رجلا ذا وجه بشع، تعيس الملامح، يداه أطول من جسمه بالرغم من ضخامة شكله، يبادر إلى وجهه ابتسامة سخرية مؤذية لا ترحم أحدا..
نظر إليها وقال: ماذا تفعلين هنا يا امرأة؟ أشاحت بوجهها عنه وأشارت بيدها أن دعنا وشأننا.
لكنه لم يدعها وشأنها بل توقف بجانب الصغير ثم أمسك به ورفعه عاليا حتى صار كخرقة بالية تلعب بها الريح هنا وهناك.
سكت الصغير، حتى عن البكاء الذي كان يجيده عندما يطحنه الجوع، لكنه لم يفعل شيئا هذه المرة سوى النظر بفزع إلى والدته التي ألجمها الخوف على صغيرها.
كانت الصغيرة لا تزال تحلم، تحرك شعرها المبعثر وتلتقط بيدها الصغيرة ما بين الخصلات من عقد تحاول حلها، وتنادي بأعلى صوتها على أمها التي كانت في عالم آخر من الفزع، والخوف، والهلع الذي ابتدأ به نهارها، فتحت عينيها على صوت جهوري يخاطب الحلم في خيالها ويعرض بجلافة على المرأة الواقفة بجانبها أن تنضم إليهم حتى تزيد من تضامنهم ضد الفقر الذي فتك بهم فوافقت مرغمة لأنها لا تملك سلاحا آخر تحارب به سوى المشي خلف جموع شبه عاريه يقتلها الألم والأمل والخوف من نظرات بعيدة لا يتقن تمثيلها سوى الفقر المتربص بهم.
من بعيد.. ينتظرهم الصدأ.. يبتلعهم سراب الأيام.. يحيلهم ذكرى وحكايات لا يعرف نهايتها سوى من رأى عيونهم الفارغة من رونق الحياة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved