الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 29th August,2005 العدد : 120

الأثنين 24 ,رجب 1426

مساقات
في الشعر والآثار
د. عبد الله الفَيْفي

تحدثتُ في المساق الماضي عن (مسؤولية القارئ) لأؤكّد على أن الكتابة والقراءة هي عملية شراكة، وأن هناك عَقْداً بين طرفين، لا يجوز أن يخلّ به أيٌّ منهما، أو يُلقي مسؤولية الوفاء به على الآخر. وحين يتعلّق الأمر بالشعر العربي القديم، والجاهلي منه على وجه الخصوص، فإن جملة من المفردات الملتبسة التي تتعلّق بالثقافة العربية، يؤدّي تجاهُلُها إلى رمي الشعر العربي بالغموض، أو الاستغلاق، أو التفكّك، أو تأويله تأويلات لا صلة بينها وإشارات النصوص. وذلك كمفردات: الطلل، المرأة، الغزال، المهاة، الفرس، الثور الوحشي، الناقة، الظليم، الدرّة، البيضة، أو جدلية الموت والحياة. وهي مفردات تتردّد في الشعر الجاهلي، وكأنه قصيدة واحدة. وكنتُ خصّصت كتابي (مفاتيح القصيدة الجاهلية: نحو رؤية نقدية جديدة) عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا)، 2001, لدراسته، لأكشف عن أن عدم فهم خلفيات تلك المفردات وامتداداتها الرمزية يُسْلِم القارئ إلى العجز عن فهم رسالة النص الحقيقية. بل يمكن القول إن هذا النوع من الوعي ذا العلاقة بتاريخ تطوّر الدلالات في اللغة العربية هو السبيل الوحيد للتعاطي بعمق مع كثير من نصوص التراث العربي عموماً، ولا سيما ذي الصبغة الأدبية. والتفصيل في هذا يطول.
إن بقايا الحضارات من الفنون والرسوم والرموز تعكس جميعها أنساقاً طقوسية، مثلما كان الشعر من وجهة نظري يعكس في العصور القديمة أنساقاً طقوسية كذلك. غير أن المنزلق الذي قد يجد قارئ نفسه فيه هو أن يقرأ آثار الحضارات كما قرأ القدماء الأماكن والديار في ضوء الشعر، فطابقوا بين الشعر والجغرافيا، أي أن على الدارس أخذ تلك الآثار بقِيَمها الرمزية، لا بمشخّصاتها الكيانية المكانية، وأن يُجري عليها التأويل في ضوء الشعر، أو قُل يُجري على الشعر التأويل في ضوء المعطيات الرمزية للآثار. وبذا يمكن أن يُفسِّر أحد الأثرين الآخر (الشعر والرسم أو النقش.. إلخ)، حينما تُستقرأ الآثار والجغرافيا استقراءً تأويليّاً شعريّاً، يتّفق مع طبيعة الثقافة القديمة، فضلاً عن الثقافة الشعرية القديمة. وهو منهج يختلف على طول الخطّ مع المنهج الوثائقيّ، الذي يطابق بين المكان في الشعر والمكان في الواقع، أو الإشارة الآثاريّة والإشارة الشعريّة!
ولقد ساهمت حفريات الآثار، وكذلك المكتشفات الميثولوجية الحديثة، في الكشف عن أسرار القصيدة القديمة. إذْ كانت الآثار بمعنى اللوحات والنقوش والتماثيل بمثابة قصائد أو معلّقات مجسّدة، تنطق بما قاله الشعراء، إذا ما تمّت قراءتها قراءة شاعريّة لا ظاهريّة! ولذلك كنتُ ذهبتُ في كتابي المشار إليه إلى أنه إزاء المنهجيات القرائيّة من تقليديّة مقتصرة على الشرح، أو حديثة متكلّفة للتأويل تأتي المكتشفات الأثرية والميثولوجيّة في الجزيرة العربيّة وبخاصة الجهود القيمة التي قام بها قسم الآثار بجامعة الملك سعود، بريادة (الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الطيب الأنصاري) لتضعنا أمام وثائق غاية في الأهمية، بما تقدّمه من معطيات حيّة وملموسة عن حياة العرب قبل الإسلام، وعن مزاجهم الحضاري، فالفنّي والتعبيري. ولعل الآثار المكتشفة إلى اليوم كانت قمينة لو أنها حُلِّلَتْ ونُوظرت بآثار العرب القوليّة أن تُحْدِثَ ثورة معرفية، قد تقلب المفاهيم التقليدية السائدة عن العصر الجاهلي، وتُحتّم إعادة قراءة جوانب شتّى من تراثه، ذلك التراث الذي يُكتفى عادة في الحُكم عليه بمرويّات متأخرين عنه، وأخبار نَقَلَةٍ بعيدين عن عصره وبيئته، أو تخمينات ناقدٍ مُحْدَثٍ، يَعْمَهُ في شطحاته التحليلية.
لكن مشكلة العرب المزمنة هي عدم التعاون. فهناك شكٌّ دائماً، وخوف، وضرب من احتكار المعلومات والأفكار. فإذا كان علي البطل، رحمه الله!، قد اعتذر قبل حوالي عشرين عاماً بأن مغاليق الشعر الجاهلي يَنتظر تفسيرُها أن تكشف أرض الجزيرة العربية عن آثارها، فها هي هذه الجزيرة اليوم قد لفظت بعض أسرارها، لكن البشر أحياناً لا يفعلون! وفي تقديري أن عدم التواصل بين قسمين في كليّة واحدة كقسمي اللغة العربيّة والآثار في كلية الآداب بجامعة الملك سعود يدلّ على ثقافة من القطيعة السائدة، في نموذج على ما هي عليه الحال من باب أولى بين دولتين عربيتين، وما يمكن أن تكون عليه في المستقبل، وإلى ما شاء الله!
ومع أهمية الحفريات الاستكشافية المنجزة حتى اليوم، فلا بد من القول إنها ما تزال تتركّز في المناطق الوسطى تقريباً من المملكة. أي أن الآثاريين اليوم يدورون في فَلَكِ بحث اللغويين القدماء، مهملين أطراف الجزيرة، لأسباب تتعلق بصعوبة البحث في تلك المناطق التي قد تحمل من الآثار ما لا يقل إن لم يفق ما عُثر عليه في المناطق الأسهل.
وإذا كان لي أن أحدِّد هنا أمثلة من بعض ما أعرف، فسأقول إن منطقة كجبال فَيْفاء في جنوب المملكة على سبيل المثال لا الحصرلم تزل بكراً، مع مؤشّرات كثيرة على ما تنطوي عليه من آثار مهمّة، لا تتعلق بتاريخ الجزيرة وحدها، بل بعلاقاتها مع حضارات الجوار، في آسيا أو إفريقيا. وقُل مثل هذا عن مناطق شتى في المملكة. بل إن منطقة جازان عامة أو المخلاف السليماني كما كانت تُسمّى حافلة بآثارها، ما اكتُشف منها وما لم يُكتشف. والطائفة الأخيرة أكثر، وربما أهمّ؛ إذ ما تزال أرضاً غفلاً، لما تمسّها بعد أيدي المنقّبين من الآثاريين بما تستأهله من بحث، رغم شواهدها الظاهرة على ما تخبّئه أحشاؤها من تاريخ. ولقد اجتهد محمّد بن أحمد العقيلي، رحمه الله! بإمكاناته المحدودة وخبراته البحثيّة المُتاحة في تتبع بعض تلك الآثار، إلاّ أن جهوده الشخصية المشكورة إنما باءت باكتشاف نقشٍ حجريّ تارة أو تخمين موقع أثريّ تارة أخرى دَوَّن جُلّ نتائجها في كتيّبه (الآثار التاريخيّة في منطقة جازان). وهو ما لا يغني بحالٍ عمّا هي قمينة به المنطقة، من فِرَق بحثٍ علميّ، على غرار ما تمّ عمله في الفاو أو الرَّبَذَة. وإنّ في اعتذارات العقيلي في كتابه المذكور عن قصوره الذاتيّ عن تحقيق طموحاته المخلصة في كشف آثار المنطقة، ثم أسفه عن عدم درس ما اكتشف منها حقّ الدرس، ما يلقي بالمسؤولية على الجهات المفترض فيها مثل ذاك الدور، وفي صدارتها الجامعات.
غير أن مثل تلك البحوث الآثاريّة المتخصصة لا يمكن أن تُنجز إلا في إطار خطط وطنية بعيدة المدى، تسهم فيها أكثر من جهة حكومية أو أهليّة. وإلا كيف يمكن لباحث سعودي مثلاً مناقشة آراء يسوقها باحث ككمال الصليبي حول جنوب الجزيرة، في كتابه (خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل).. كيف يمكن له أن يتأتّى إلى ذلك، ما لم تكن بين يديه حصيلة علمية عن تاريخ تلك البقاع، مما كان يمكن أن تسعف به مكتشفات الآثار؟
من أجل هذا فإن مكتشفات الآثار يمكن أن تسهم لا في الكشف عن أسرار أنثروبولوجية فحسب، بل في الكشف عن أسرار أخرى كثيرة عبر التاريخ.
على أن ثقافة الآثار والمتاحف في بلادنا ما تزال غريبة، بل محلّ ارتياب أحياناً لا مسوّغ له، وتعقيدات بيروقراطية لا معنى لها. لذلك فإنه من المؤسف حقّاً أن يعلم الإنسان في هذه البلاد عن حضارات العالم وآثاره ما لا يعرف بعضه عن حضارة وطنه وآثاره. وما ذلك إلا لأنه بالإضافة إلى التقصير الذي مازال في استكشاف الآثار فإن تهيئة الظروف المناسبة والتسهيلات اللازمة لزيارة المواقع الأثريّة من جهة، ثم تأسيس ثقافة المتاحف والعاديات من جهة أخرى، ما تزالان تراوحان مكانهما منذ سنين. فالمواقع الأثرية لا تختلف عن المتاحف في كونها على قلتها وتواضعها عالماً مجهولاً لدى عامة المواطنين، بل مغلقاً في الغالب أمام المواطن، ناهيك عن السائح. ولمّا يقم بعد أيّ دور سياحيّ استثماري يذكر في هذا الجانب، كما لا حضور للإعلام في التعريف بهذا القطاع الثقافي المهمّ أو الإعلان عنه.
وهكذا، فإنه إلى جانب تواضع البِنَى التأسيسيّة المتاحة في حقل الآثار والمتاحف وندرتها في المملكة تبقى الضبابية المحيطة بآلية الإفادة السياحيّة والثقافية منها، مع كثرة المعوقات والاشتراطات، من تصاريح وأذون رسميّة، حوائل دون ادعاء أحد بأن هذا القطاع، الذي يحظى في كل بلدان العالم باهتمام بالغ، قد أصبح له وجود فعليّ في حياتنا الثقافية. ويكفي أن يعرف المرء أن آثار مدائن صالح بمحافظة العلا، وموقع الربذة الإسلامي بالمدينة المنورة، وقلعة الحلية والعيص بمحافظة ينبع، وقرية الفاو الأثرية بمحافظة الدواسر، وقلعة عسفان وقلعة خليص بمنطقة مكة المكرمة، وموقع ثاج الأثري، وآثار ميناء العقير بمحافظة الأحساء، وقلعة تبوك وموقع روافة الأثري، وقصر مارد وأعمدة الرجاجيل وقلعة زعبل وقصر أثرا بالجوف، كلها مواقع لا تمكن زيارتها إلا بتصاريح، حسب تصريح وكيل وزارة التربية والتعليم للآثار والمتاحف الأستاذ الدكتور سعد الراشد (لصحيفة الوطن، الأربعاء 22 جمادى الأولى 1426هـ). فإذا كانت تلك هي جُلّ المواقع الأثريّة وأهمها في المملكة، فما الذي بقي من تسهيلات لزيارة الآثار لدينا؟! كما أنه باستثناء (المتحف الوطني) بالرياض، لا أعرف شخصيّاً متحفاً في المملكة يستحق هذا الاسم، أو يليق ببلدنا ومكانتها الحضاريّة والتاريخيّة، التي لا تكمن ثروتها فيما تختزنه أرضها من نفط، بمقدار ما تكمن ثروتها الحقيقيّة فيما تختزنه من تاريخ، لعله دون مبالغة الأهمّ، من حيث تعلّقه ببدايات العالم.
ولعل أحد الأسباب في الوضع البدائي لثقافة الآثار والمتاحف لدينا هو ما يبدو من ضياع انتمائها بين جهات ثلاث: (وزارة التربية والتعليم) ، (الهيئة العليا للسياحة)، التي صدر الأمر الملكي في 28 / 2 / 1424 هـ بضم وكالة الآثار والمتاحف إليها، ثم (وزارة الثقافة والإعلام). وذلك أن قطاع الآثار والمتاحف متصل بشتات تلك الجهات: التعليم، والسياحة، والثقافة في آن. وقد يكون في استقلاله مستقبلاً، أو تفعيله من خلال الهيئة العليا للسياحة وهي الأقرب إلى جعله في مكانه الطبيعيّ ما ينقذه من الموات، الذي لم يَعُد مقبولاً بحال من الأحوال.
مرفأ
زائراها غيرها
والمدى عيناها
هل تُرى الحلوة تدري!
أنها كل الورى؟!


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved