الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 29th August,2005 العدد : 120

الأثنين 24 ,رجب 1426

علة العصر والترويج للرواية
د.صالح زيَّاد

غدا (العصر الحديث) من حيث هو علة القصة وسبب رتبتها المتقدمة على الشعر، في مقولة نجيب محفوظ كما سبق أن عرضنا في المقال السابق حجر الأساس، بعد ذلك، في الكتابات والدراسات النقدية العربية التي ولَّدت منها عنواناً مكروراً، هو «عصر الرواية» أو «زمن الرواية» الذي يتصدر جهداً نقدياً يروج الرواية والسرد فيما يتحلَّى بقصدية المعرفة الأدبية والإنسانية، ويعيد ترتيب الأنواع بقدر ما يستبصر الوظيفة في منعطف التاريخ وفي صعود المد التحرري والتشكل الحديث للمدينة العربية.
يقول محسن الموسوي في مقدمته لكتابه «عصر الرواية»:
«أما الجدل الأساس الذي تقود إليه، أو تتفرع منه مختلف فصول هذا المقال، فهو روح العصر الذي تتفاعل معه الرواية. فمنذ أن قال (آيان وات) بوجود الارتباط الفعلي بين المدينة والرواية، كثرت الكتابات في هذا الموضوع لتثير جدلاً آخر بشأن الرواية بصفتها محركاً لروح العصر أيضاً. بل إن ظهور الرواية ونموها وتغيرها المستمر حتم على هذا المقال ألا يتخذ عنواناً آخر غير (عصر الرواية)، فهذا النوع الأدبي أثبت قدرة خاصة ليس في الظهور وحده، بل في القدرة على أن يكون في مقدمة الأنواع الأدبية وأكثرها ذيوعاً.. ومثل هذا الذيوع من جانب، وروح الانقلاب المستمر في هذا النوع الأدبي من جانب آخر يؤكدان حقيقة برزت منذ أكثر من قرنين، تلك هي أن الرواية تقدر على أن تحمل نبض العصر.. نبض التغيير».
ويمكن أن نقف هنا على دلالة (روح العصر) أو (نبض العصر) التي تأخذ في علاقتها مع الرواية، صفة العلة والمعلول في وقت معا، لدى الموسوي إذ هي المرجع الذي تتفاعل معه الرواية من جهة، وهي محركه من جهة أخرى، لتغدو الرواية، بدورها، علة العصر ومعلوله في وقت معا. فروح العصر، كما يمكن أن نفهم، تأخذ صفة كلية وذات وحدة وتجانس، ولا يمكن أن نستبصر خصوصية للرواية داخل هذا الكل الواحد، فالأنواع المختلفة للفلسفة والعلم والتقنية والأدب والفن منظوراً إليها بهذه الفكرة تأخذ صفة الرواية على قدر متساو، فهي معلول العصر وعلته وهي مفعولة له وفاعلة.. وبذلك يستعصي علينا تفسير تقدم الرواية، بل نغلِّف هذه الحقيقة بغموض المدلول الميتافيزيقي لروح العصر.
إن الرواية مثل الفلسفة والعلم وأنواع الأدب تقوم في بنية فكرية وثقافية وجمالية مستقلة عن الواقع، وكما أن العلم ينتجه العلم، والفلسفة تنتجها الفلسفة، والشعر ينتجه الشعر، فإن الرواية تنتجها الرواية... وذلك باستحضار وتوليد وتكييف عناصر مختلفة وعديدة في صيغها ومضامينها ومستوياتها من الذاكرة الأدبية والثقافية والاجتماعية والإنسانية والتاريخية والمعرفية.. في طولها وعرضها وفق وظيفة نوعية يدخل القارئ وفضاء الاتصال ذي الخصوصية، وليس المؤلف أو العصر فقط، في إنتاجها. وهي وظيفة تسعى دوماً وفي كل العصور والفنون منذ هوميروس إلى نجيب محفوظ ومن امرئ القيس إلى كوليردج إلى تجاوز الزمن المتعين وتحييده، وليس الانفعال له والتقيد به.
ولهذا يغدو تقدم الرواية مفصلاً واضحاً للوظيفة الأدبية، وقد هيمن عليها العنصر السردي الذي يعني الاستماع لآخر، وتداخلت الأنواع والأجناس وتعددت المصادر والمرجعيات وفق استراتيجية مناخ مختلف للقراءة قوامه ما يمكن أن نطلق عليه (القارئ العريض) بعكس (القارئ الضيق) الذي يختص بالفنون الحدية في مداراتها المغلقة مثل الشعر والفلسفة كلاً على حدة فهو الشاعر والفيلسوف والمؤرخ والعالم والمثقف والسياسي... وهو المنتمي واللامنتمي والإيديلوجي والمعرفي والروحاني والمادي والبدائي والمتحضر... الخ.
واستراتيجية القراءة تلك في علاقتها بصعود الرواية عبر إحالته إليها، أو إحالتها إليه، لا يمكن النظر إليها منعزلة عن فعل التلقي الذي تشترك فيه أدوات وأنواع الاتصال العام من صحافة وتلفاز وإذاعة وسينما.. وقد تكيَّف بها وتكيَّفت به ودخلت إلى مسرح الاتصال الثقافي تماماً كما هو حال ذيوع الرواية بشكل لم تعرفه البشرية من قبل. وقد تابعت مجلة (فصول) فكرة الموسوي فخصصت أجزاء من أعدادها (ابتداءً من شتاء 1993م) ل(زمن الرواية) واستهل رئيس تحريرها جابر عصفور الجزء الأول واصفاً تصاعد حضور الرواية بتعداد علامات ذلك الحضور المتمثلة في ارتفاع معدلات الإبداع الروائي، ومعدلات الاستقبال حيث غدت الرواية النوع الجاذب لمزيد من القراء، وانتزعت آيات التقدير في المحافل الرسمية، مدللاً بعدد الروائيين الحاصلين على جائزة نوبل قياساً إلى المبدعين للأنواع الأخرى، وبتزايد الكتابة النقدية عنها وتخصيص مجالات معرفية لها. ويضيف إلى ذلك امتياز الرواية بالقدرة على التقاط الأنغام المتباعدة لإيقاع عصرنا، بواسطة الطبيعة البوليفونية والخاصية الحوارية في النسيج الروائي.
ويتخذ محمد برادة مدار مقاله، في نفس الجزء من (فصول)، من الدفاع عن فكرة أن الرواية تستحق أن تكون هي الجنس الأدبي الأقدر على التعبير عن علائق الإنسان الحديث المعقدة، مقرراً أن (زمن الرواية) تعزَّر مع بداية القرن العشرين من خلال إنجازات نصية تكشف عن إمكانات أخرى في السرد والوصف والتخييل والتقاط التفاصيل واستبطان الذات المتشظية وسط ضوضاء المدينة واهتزاز القيم وتبدلها. وأن اتسام الرواية بحرية الشكل يؤمن لها التجدد تبعاً لإيقاع العصر وانتظارات الجمهور المتلقي، فهي تتيح لنا أن نقول كل شيء وهذه خاصية لا تتوافر في أجناس أخرى. ويعود، في سبيل التدليل على الشكل المفتوح للرواية، إلى المسار التاريخي للرواية الذي يكشف عن عراقة مَتْح الرواية من بقية الأجناس والخطابات، ومن ثم تعددية مكونات النص الروائي منذ القدم.
ويقف برادة على خصائص الخطاب في الرواية التي تتيح تعدده وتعدد إمكاناته في صوغ رؤى العالم، فتعدد الساردين والأصوات في الرواية الحديثة استجابة جمالية لمقتضيات تنسيب الحقيقة، والسرد المتحرك يستحضر كل ما يسم علاقة الإنسان بالواقع من فوضى وقلق وتمزق ويقدر على تشخيص الحياة النفسية للشخصيات. أما الوصف في الرواية الحديثة فقد تخلص من المحاكاة إلى تفريد النظر إلى الأشياء والعالم وإسباغ خصوصية الذات الواصفة على الواقع. والمكوِّن الحواري للرواية يحقق عملية مواجهة موضوعية بين كلامنا وكلام الآخرين، وهو مظهر خلاق لعوالم لفظية ممكنة ولتشخيص الصيرورة الإيديلوجية ولتفاعلات الشفوي بالمكتوب. والزمان والفضاء في كل رواية يغدوان ملمحاً يميزها عن جميع الفضاءات والأزمنة خارج تخييليتها. كما أن الرواية بتشخيصها الأدبي للغة تتمكن من استيعاب جميع اللغات المتداولة في الحياة اليومية أو في مجالات البحث العلمي والتفكير الفلسفي.
ويضيف محمد برادة إلى هذه الإمكانات التي تميز خطاب الرواية ما تنطوي عليه الرواية من استجابة لرغبة الإنسان في امتلاك وتشكيل وتوسيع العالم عن طريق الحكي، ويقف أخيراً على علاقة صعود الرواية في زماننا بتحول مفهوم الأدب وبتحول العالم، فالأدب انتقل إلى الذاتي والرواية نموذج للاحتفاء بالذاتية والفردية، والعالم تحول بسرعة في مجال العلوم والتكنولوجيا وانعكس ذلك على تنظيم المجتمع وتوسيع الثقافة والتحكم في استهلاك المتلقي للمنتجات الأدبية والإعلامية، ولهذا كانت الرواية تجسيداً لمغامرة الكتابة وللتشظي وللتحرر من التبعية للإيديولوجي، وهي تتوفر على حظوظ كبيرة لإنجاز وظيفة المساءلة للإيديلوجيا.
لكن هذه العناصر الخطابية التي بدا أن محمد برادة يخص بها الرواية لا تخلو منها الأجناس والأنواع الأخرى سواء كانت في المسرح أو السينما أو حتى الشعر، خاصة حين ننظر إلى النصوص التي تمثل هذه الأجناس في مجموعات، وإن كانت الرواية، حقاً، قد تمكنت من تضخيم التعدد والتداخل الشكلي واللفظي والخطابي. أما الإطار المعرفي والثقافي والواقعي الذي تحوَّل فيه الأدب من الجمعية إلى الفردية والذاتية وإلى مساءلة الإيديولوجيا ومغامرة الكتابة وتشظيها على خلفية التغير المذهل الذي شهده العالم، فلا يبدو أنه ينشئ علاقة خصوص مع صعود الرواية.
وإذا انتقلنا إلى جابر عصفور في كتابه «زمن الرواية» فسنجده يعلن تغير التراتب التقليدي بين الأنواع الأدبية، فقد انسحب الشعر من عرشه الذي ظل متربعاً عليه طويلاً، بوصفه سيد الأنواع الأدبية، وتعدل التراتب لتصعد الرواية هذا الفن الجديد الذي كان محمد حسين هيكل «ابن الذوات المتعلم يخجل من الانتساب إليه في أوائل العقد الثاني من هذا القرن».
أما علة صعود الرواية لدى جابر عصفور فتبدو في العلاقة بين التغير التاريخي الاجتماعي والثقافي والمدني وبين وظيفة الرواية وخصائصها التكويينة والاتصالية، فهي مرآة المجتمع المدني الصاعد وسلاحه الإبداعي في مواجهة نقائضه المتمثلة في التخلف والتعصب والتسلط والتطرف وزمنها هو زمن الاستنارة وتحرر الفكر الذي يوجد حين تتولد رغبة التحرر عارمة وهي ملحمة الطبقة الوسطى العربية في بحثها عن هوية لها داخل مجتمع متمزق بين الماضي والمستقبل، وبين التراث وحضارة الأجنبي كما أنها فن المدينة العربية الحديثة التي تدخل عالم التصنيع وعصر المفارقات، حيث المدن التي تكتظ بالسكان لكن دون علاقات حميمة تربط أحد بأحد وصعودها مرتبط أيضاً بتصاعد دور الآلة في حياتنا والدخول إلى عصر المعلومات الذي أحال العالم إلى قرية كونية وطبيعة الرواية البوليفونية تجعلها قادرة على التقاط الأنغام المتباعدة، المتنافرة، المركبة، متغيرة الخواص، لإيقاع عصرنا.
والرواية تمتاز على الشعر وعلى القصة القصيرة والمسرح في مواجهة مهمتها هذه، لأن الشعر كالقصة القصيرة ابن اللحظات الآنية، والرواية ابنة اللحظات المتعاقبة، كما أن الشعر ابن اللحظات الحدية من التاريخ، والرواية ابنة اللحظات الرمادية من التحول التي تولِّد المزج بني النقائض والمجاورة بين الأضداد. أما المسرح فإنه فن التواصل والحوار حيث الاشتراك في جمعية الأداء والتلقي للإبداع على عكس الرواية التي تجسد فردية التعبير والتلقي لكتل بشرية متراصة في زحام المدن دون أن يعرف أحد أحداً.
وأعتقد أننا لا نستطيع أن نفصل الشعر والمسرح والقصة القصيرة عن وظيفة التحرر أو عن التشكل بنائياً بما (يعكس) إن لم يكن بد من هذا التصور تغيرات اللحظة العربية وتمزقها ورماديتها، أو عن هيمنة الآلة والمعلومات وواقع المدينة بمفارقاتها وتشييئها للإنسان.
إن صعود الرواية ورواجها يؤشر بالأحرى على مناخ تداولي للأدب، وتشكل جديد لمشهد القراءة والتلقي والإبداع تصاعدت فيه مقولات التعدد والتنوع والتداخل وانهيار المركزية والانفتاح على الهوامش. وهي مقولات تصنع مناخاً للقراءة لم يساعد على حضور الرواية وصعودها فقط، بل على حضور الأدب الشعبي والمحلي، والاحتفاء به نقداً ونشراً، وعلى الاهتمام بكتابة المرأة وتنامي النقد النسوي، وبروز الدراسات الثقافية والنقد الثقافي... وهي ملامح لا صلة لها، في الراهن العربي، بالشرط التاريخي والاجتماعي، فالإبداع الروائي العربي بحسب فيصل دراج «في معظم الأحيان.. يتقدم كإنجاز حداثي في مجتمع لم يحقق معنى الحداثة».
لكن الملمح الأهم الذي يمكن أن نكتشفه في هذا المشهد هو انهيار مبدأ التراتب بين الأنواع، فقيام الرواية على تداخل الأنواع أو«الكتابة عبر النوعية» بتعبير إدوارد الخراط يمحو حدية النوع التي تبني التراتب. ولا يمكن أن نتصور فعل الرواية وجماليتها الوظيفية وفي أذهاننا صورة للقيمة أو الوظيفة تستند إلى التراتب.
إن صعود الرواية وفق بنية التعدد والتداخل والتشظي هو مؤشر على استبدال تكافؤ الصيغ والأنواع بتراتبها. وهو ليس استبدالاً مجانياً بل وظيفي وواعٍ ومتعالق مع موقفية النقد الحديث التي تجمع مع الاختلاف باختين ولوكاتش وإيان وات وجولدمان وبارت وجوناثان كولر ومحمد جاسم الموسوي وجابر عصفور ومحمد برادة وعبدالله الغذامي وفيصل دراج... إلخ في الحلم بكسر الشمولية المصمتة بكيفياتها المختلفة، وتجاوزها.


Zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved