الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 29th September,2003 العدد : 30

الأثنين 3 ,شعبان 1424

قصة قصيرة
بيدبا الفيلسوف يكتب قصة جديدة
* شريفة الشملان
حك بيدبا الحكيم رأسه، وخلل بأصابعه لحيته، وسأل بصوت عربي بلكنة تختلط بين فارسية وهندية: أين ابن المقفع؟
كنت اداوي جرح يدي الذي لم يندمل منذ فترة طويلة، حين التفت اليه وقلت: يا سيدي لقد أتيت متأخرا لقد مات ابن المقفع منذ زمن بعيد، صار رمادا وطار نحو السماء ولم يشفع له عند الوالي أدبه الصغير ولا الكبير.
قال بهدوء كمن لم يفاجأ: إذن مات.
مط شفتيه قليلا ثم حرك رأسه بهدوء بسيط، ذكرني بحركة بندول ساعة جدتي الحائطية. واكمل: والقصة مَنْ يكتبها إذاً؟
تحفز عقلي ويدي وانبريت لهذا الصيد العظيم، قصة لبيدبا الفيلسوف، في القرن الواحد والعشرين بين يدي، يا لحظي الجميل الذي نزل من السماء كي اتلقفه قبل أن يصل ليد غيري. خاصة والكتاب كثر..
قلت له: يا سيدي أنا امرأة اعالج الحرف منذ سنين عجاف قليلها مثمر، يغلبني كثيرا واغلبه قليلا، هل منحتني شرف خط قصتك الاخيرة.
عندما بدأ يتكلم، كان صوته متقطعا ومبحوحاً، فشعرت بنشوفة حلقة قدمت له قهوة عربية مبهرة بالهال والزعفران، كما اقدمها عادة لاعز الضيوف، لكنه لم يستسغ طعمها، وفضل شرب ماء دافئ، اتكأ وانشأ يقول وانا اكتب، تمتزج احياناً كلماته العربية بكلمات فارسية وهندية وكان علي أن استعين بقواميس لحل بعض الكلمات، فان لم اجدها، رحت اتخذ من الموقع في الجملة تعبيرا مناسبا فكانت الحكاية كالتالي:
في زمن بعيد جدا قبل أن تعمر هذه الارض، كان هناك ارض بعيدة جدا، بين الشمس والقمر، ليست كهذه الارض هي مدورة لكنها تدور بسرعة عجيبة فيتغير زمانها، بفترات قصيرة، فشتاؤها ايام وصيفها بضع ليل واما خريفها فيكون كالحلم، والربيع يمضي كطيف مر، يومها بضع ساعات وليلها لا يشبع النائم، وهناك في تلك الارض البعيدة الموغلة بالقدم كانت تعيش حيوانات كثيرة، فالإنسان لم يوجد عليها، ولن يوجد، فمازالت خالية منه، لم تكن الحيوانات تعيش في وئام ولا سعادة، فالطيور تخاف كثيرا، وعندما تعدد اعداءها تغلط في حسابهم، وكذلك الزواحف والخيول والحمير، وكانت الثعالب تحاول أن تتغلب على التعاسة بصنع مقالب هنا وهناك، يستسيغ الاسد مقالبها احيانا ويزمجر في احايين كثيرة.
كان الثعلب يتربص بالحمام ليأكله واحس الحمام بالثعلب فأنذر وهو يهدل، ببقبقات جميلة جماعة الحمام بالخطر المتربص بها، فكان أن طارت الحمامات بعيدا، ومر الثعلب على الدجاجات وقال في نفسه سآكل فراخها بعد الغروب، لكن الدجاجات احست الخطر، وحمت فراخها منه.
ومثلما كان مع الثعلب كان مع الذئب، ومع النمور، وبدأت تشعر بالخطر خاصة أن لكل حيوان لغة يتفاهم بها مع بعضه البعض، فكان ان اجتمعت الثعالب والذئاب والنمور إلى ملك الغابة، شكت له امرها وأن الصيد يتعبها فهي لا تريد الفرائس الصعبة تريد فرائس تقول ها انا ذا كلوني.
هز الملك الاسد رأسه المتوج بالشعر الغزير، وطلب الحكيمة البومة، التي لم تستطع أن تجاريهم خوفا ورهبة، وأقسمت فيما بعد ألا ترى وجوههم نهارا جهارا، فما كان من الاسد الا وطلب انفضاض المجلس ليحتكم لمجلس البرلمان الاسدي. قامت الحيوانات المجتمعة وقبلت يديه ورجليه ودعت له بطول العمر ليبقى حارسا للحق والعدل في تلك البقعة من العالم.
اجتمع البرلمان الاسدي، وتمت مناقشة الوضع من كافة جوانبه، وقد رأى البرلمان بعد المناقشة والمداولة ان سبب المشكلة الرئيسة تكمن بعدم وجود لغة واحدة للحيوانات، تفهمها الحيوانات المفترسة، وخاصة تلك الحيوانات كالنعام والحمام والارانب، التي تعد فرائس للحيوانات الاخرى التي من اهم حقوقها أن تجد قوتها باستمرار، واثنى البرلمان على النعاج ومن في فصيلتها على حسن سيرتها وسلوكها.
المشكلة التي ظهرت للبرلمان الاسدي هي كيف بالإمكان توحيد لغة الحيوانات.
واعدت خطة تدرجية على مراحل متعددة تبدأ باستخدام احدث التجهيزات، وعبر ضخ اللغة المرادة في كل القنوات، المرئية والمسموعة والمكتوبة، ومعها تحذير رسمي بعدم استعمال لغة الاسود مطلقا فالزئير للاسد وحده ولا يتعلم هذه اللغة احد ويمنع تداولها على كل الحيوانات اياً كانت، بما في ذلك النمور والذئاب والثعالب التي لا مانع من استعمالها لغتها الخاصة في كل مكان، ماعداها فهو ممنوع منها تماماً.
وجدت مشكلة ثانية، وهي بعد أن تتخلى جميع الحيوانات عن لغتها الاصلية، فأي اللغات يسمح لها النطق بها، وبدأ الامر محيرا حقا في البداية، ولكن بعد دراسات مستفيضة لكافة النواحي منها: أن اختيار لغة الطيور ستكون صعبة جدا فللطيور نغمات كثيرة متعددة، كما أن اغلبها جميل فالكناري والبلابل والعصافير صوتها جميل جدا، ونغماتها محببة مما قد يضفي على الحيوانات عند استعمالها نوعا من البهجة والفرح والسرور، الذي يرفض البرلمان الاسدي أن يستمتع به غيره، واعتماد نبح الكلاب، به شيء من قوة كما انه يرهب السادة الذئاب والثعالب.
وهذا امر يبدو في غاية الخطورة، قيل الصهيل فالخيول لطيفة، وقد تكون متعاونة في امور كثيرة، كما انها حيادية بين الحيوانات التي تقتات الاعشاب وبين المفترسة، لكن الاسد لم يرضه الامر، خاف من تحسس السادة النمور خاصة وقد عرف ان للخيل جمالاً يفوق جمال النمور، كما انها قد تتغلب احيانا على النمور عندما تضرب بأرجلها الامامية، واما النهيق فهو يثير الاسد شخصيا، ولولا الحاجة الماسة للتوازن البيئي، لتم اعدام كل الحمير، واما فحيح الافاعي فهو يشعر الاسود والنمور بالغثيان.
بعد مداولات عديدة ومشاورات اعتمدت لغة النعاج، لغة على جميع الحيوانات التكلم بها، ومن لا يتكلم بها فهو لاشك يحيك مؤامرات لعالم الاسود، وعلى الاسود أن تستنفر كل قواها لمحاربته، وبناءً على ذلك يتم عرض هذا القرار على مجلس الثعالب والنمور والدببة والذئاب لاقراره، فكان ما كان من امر اقراره، وبدأت تباشير تطبيقه، تعبت الحيوانات في كل مكان وهي تثغي كالنعاج، وأكثر من تعب الخيول فقد بدأ صهيلها في البداية خليطا من ثغاء وصهيل، ولكن مع مرور الوقت تعودت ذلك، كذا تعودته الحمير وسائر الحيوانات، وصار كلام الجميع «ماأأأأ.. ماأأأأ.، ماأأأأأ..»، وارتاحت الاسود والنمور والدببة وسائر الحيوانات المفترسة، لكن، نما لعلمها أن الحمام يهدل في عشه بطريقة سرية وقد يكون يحيك خيوط مؤامرات دنيئة، والخيل عندما يركض في البراري الفسيحة ينسى نفسه وينسى الثغاء فيصهل، كذا العنادل عندما تأمن عيون البصاصين، وآذان المنصتين فهي تغرد، وتكثر التغريد حتى يخال السامع أن المجلس الاسدي لم يصدر امرا باعتماد لغة «الثغي» لذا امرت الاسود بوضع ادوات تنصت في كل مكان، وتحت كل شجرة، وداخل كل جحر، بما في ذلك بيوت الثعابين والخنافس.
لكن واجهتها مشكلة مع هذه الصامتة التي لا تدري ماذا تفكر ولا اي المؤامرات تحيكها « النعامة»، فما كان منها إلا أن اعدت لها مدرسا من الثعالب يعلمها لغة الاشارة، وبعد ثلاثة ايام من الدرس الذي تقدمه الثعالب للنعام، لم يوجد للنعام اثر ، لكن بانت مظاهر التخمة على الثعالب، وتم عرض الامر على مجلس النمور والدببة والذئاب، الذي اقر بالاجماع فعلة الثعالب..».
هنا تثاءب بيدبا الحكيم وطأطأ رأسه، كنت استحثه ان يكمل لي الحكاية أن يقول لي مثلا ان الحيوانات ثارت وطالبت بلغتها القومية، وبهويتها الثقافية، وان معارك عظمى قامت بين جميع الحيوانات من جهة وبين فريق الاسود والنمور والدببة من جهة اخرى، العصافير عادت تغني والخيل تصهل وانها لم تفقد لغتها لأبد الابدين، لكنه لم يتكلم، عندما هززته مرات عديدة فتح فمه وهو يدير عينيه بنظرات مسلوبة الارادة فقال: ماأأأأأ.. ماأأأ» صرخت وكدت اجرجر شعري كما افعل عندما اكون في قمة يأسي فخرج صوتي..
«ماأأأأ.ماأأأأأ.. ماأأأأ»
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved