الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 29th September,2003 العدد : 30

الأثنين 3 ,شعبان 1424

مقاربة
بيدبا يسلم الشملان حكاية
* مريم عبدالرحمن الفقيه
لقد تركت أحداث الحادي عشر من سبتمبر أثرها على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية حيث بدأ البطش يبسط ذراعيه من أكبر دولة متسلطة في العالم على منجزات الأمم وحضاراتها. فكان نتاجه واضحاً ومرئياً ومسموعاً على كافة شرائح المجتمعات من سياسيين واقتصاديين ونفسيين وكتاب وشعراء وقاصين مثل الأستاذة شريفة الشملان حيث فعّل هذا الوجود السياسي المحروق جسداً من لغة تقمصت ما تحس به وتفكر فيه، فجاءت كل كلمة في قصتها مشحونة بمعانٍ تجترح الظروف الراهنة، فمن عنوان القصة «بيدبا .. الفيلسوف» كأن ما يجري على أرض الأرض هو موجة فلسفة وجدال سياسي ضخم، كلما حاولنا ان نمسك طرفه فهماً له ذابت فينا أطراف أخرى «حك بيدبا الحكيم رأسه» وخلل بأصابعه لحيته».. تدخل الكاتبة تاريخ الأدب العربي بل تاريخ الحضارة العربية وبالذات كليلة ودمنة التي بنت مجتمعاً بشرياً يقننه العمران الإنساني والأخلاقي لضمان حياة يميزها التصاعد السلوكي المتحضر التي ليس لها ذنب أو مسؤولية عن المعاصرة الظلامية.. بادئة القصة بوصف لتهيئة المفكر أو الفيلسوف.. إنسان ينعزل حتى يبتكر وينسى نفسه فتمتلئ ملامحه بالشعر الكثيف، فلا يهمه ان يرى بقدر ما يهمه ان يستمع إليه.. فيأخذ شكلاً خشناً في مستوى خشونة الأحداث.. «وسأل بصوت عربي بلكنة تختلط بين فارسية وهندية».. الصوت العربي لأنه يحكي قصة عربية متميزة.. ولأن هذا الصوت استطاع رغم ازدحام المتغيرات وسرعة الزمن فقد أحكم سيطرته على كل الأصوات، فصار الصراع من أجله.. وللقضاء عليه، فهو الصوت المثمر المرغوب والمادي.. عمن يسأل بيدبا؟.
عن ابن المقفع؟ لماذا بالذات ابن المقفع؟ لأنه مترجم لكليلة ودمنة، وهناك فرق بين الكاتب والمترجم في المسؤولية والمساءلة والمواجهة.. والكاتبة تود الإعلان منذ البدء بإخلاء مسؤوليتها مما سيحكيه بيدبا.. «كنت أداري جرح يدي الذي لم يندمل منذ فترة طويلة» كثيرون الذين عبّروا عن آلامهم بجرح اليد لأن في اليد مكمن اعتماد النفس على قوتها وعطائها، وعندما يكثر تناول الكتاب لهذا التعبير، فلا يعني ذلك ضيقا أو محدودية وعدم قدرة على اصطناع تعبير يعطي أكثر التصاقاً من اليد بل يعني هذا أن الألم واحد والجميع ينطلق ليعبر عنه بنفس اللفظة لتوحيد الاستخدام المجازي لهذا الألم وهو جرح اليد.. الجروح كثيرة، فأيها سوف تطرح الكاتبة.. هل هو جرح التعلم الذي تستخدمه كعلاج لمداواة الجروح ودون جدوى، لذلك فقد صعب عليها الأمر وعز عليها الدواء خاصة وان مساحات الأدوية المتاح استخدامها لا تستوعب علاج الكثير من الجروح ولا حتى وضع الضماد عليها.. أم هي فلسطين العربية المجروح بها قلب العرب جرحاً مرّ عليه سنون طويلة، ولم يعالج بل لم يصل إليها وما زالت تنتظر المد من الأدوية وما زال المد متأخراً.. فتأتي القاصة مستأذنة الحكيم بقولها «هلاّ منحتني شرف خط قصتك الأخيرة» يتوضح لنا إنجاز العنوان المستوعب للعجز عن الرؤية الجريئة للواقع فيأتي بيدبا ليحكي عنّا ويعيش الألم بدلا منّا وإن كنّا من ينتج هذه الآلام.. فدائماً الذكريات تبعث فينا حنيناً لماضينا، وما حققنا فيه من انتصارات وهزائم على كل المستويات، فالذكريات إما أن تشعل فينا لغة الفن وإما أن تحيلنا إلى أجساد مسلولة فنستعير ألسنة غيرنا لنكتب بها، وهذا ما جعل بيدبا يختار ابن المقفع لأنه يحمل من الحكمة والفلسفة لواقع العرب ما تحمله الكاتبة. فهي تمنحنا الخطط الرمزية في محاولة منها لنا في كشف بعض الصور وحك ما عليها من ظلال.. فهذا قد يكون جزءاً من العلاج .. وتبدأ الحكاية.
في زمن بعيد جدا قبل أن تعمر هذه الأرض.. كان هناك أرض بعيدة بين الشمس والقمر بين حرارة الأيام وقسوتها وصعوبة اتخاذ الموقف وحسم القرار وبين بصيص الأمل وانتظار الجميل القادم/ وهي مدورة لكنها تدور بسرعة عجيبة فيتغير زمانها بشكل سريع وبهيمي دون هدف دون تعب.. دون تفكير لا يشعر من عليها بالليل أو النهار فكأنها تمهد وتوجد عللاً لاستبدال الإنسان بالحيوان وان الإنسان على هذه الأرض ليست له قيمة فانطلقت الرموز تشير إلى الثعلب بالمكر والقوة والحمام السلام الذي طار بعيدا والأسد الذي بدأ يجتمع مع الثعالب والنمور والذئاب يتشاكون إليه أمرهم وان الصيد يتعبها فهي لا تريد الفرائس الصعبة.. نريد فرائس تقول ها أنذا كلوني.. هذه اللغة القاهرة لغة القعود على ذخائر العالم وكنوزه وبأقل جهد ممكن هز الملك رأسه المتوج بالشعر الغزير وطلب الحكيمة البومة حيث يتوالد رمز جديد قديم في نفوس العرب وهو التشاؤم والتطير من بعض الحيوانات مثل البومة.
ويتم معها الاتفاق. فقامت الحيوانات وقبّلت يد الأسد ودعت له بطول العمر.. ثنائية متوازية بين الخنوع تتسبب في إيجاد ثورة تعبيرية منطلقة من تاريخ الأدب فهي لا تحاكي نص كليلة ودمنة، وإنما تضيف إليه نبعاً جديداً من مستجدات ومتغيرات عربية وفكرية، ومن جهة ثانية تضيف إلى القصة فكرة جديدة تقوم على استغلال الشكل القصصي القديم والبسيط بتكنيك متحضر لا يتجاوز تصوير لحظة منفعلة.. ما هي نتائج الاتفاق مع البومة، وهل له آثاره الإيجابية أم السلبية المربوطة بالتشاؤم نعم.. لقد اختارت الأسود الدولة التي لا تملك جيشاً ولا قوة ولا تقدر على أن تحمي نفسها وتم ضربها والاستيلاء عليها وحماية منابع البترول فيها خلال فترة وجيزة، ودون ان تتكبد الخسائر الفادحة.. ووضع الأسد للنمور حدوداً ولنفسه واجهات يحمي بها وجهه من دول عظيمة كالصين وروسيا، فارتاح وارتاحت معه النمور والثعالب والذئاب، وتلد قضية ثانية وهي عدم وجود لغة واحدة للحيوانات تفهمها الحيوانات المفترسة ويأتي دور البرلمان وهو القوة الاقتصادية الفعلية لها لتحاول وضع لغة، أو ما يسمى توحيد المصالح بدلا من أن يكون لكل شعب لغته وقضاياه ومصالحه واهتماماته، فسوف تحاول توحيدها حتى يتسنى لها السيطرة عليها «وخاصة تلك الحيوانات كالنعام والحمام والأرانب التي تعد فرائس للحيوانات الأخرى».
من هم الحمام والنعام والأرانب.. إنها الدول المسالمة ذات المنهجية المنهزمة المكسورة الرأس الخاضعة لغيرها فكراً وموقفاً.. بدليل ان البرلمان يثني دائماً على النعاج لحسن سيرتها وسلوكها فهي تحب ان تكون معتادة موجهة وبالضرب حتى تأخذ مساراً محدوداً.. أعد البرلمان خطة تدريجية تبدأ باستخدام أحدث التجهيزات وضخ لغة عبر القنوات ومعها تحذير رسمي بعدم استخدام لغة الأسود «من لم يكن معنا فهو ضدنا» لغة لا يسمح بتداولها إلا بين أصحابها «فالزئير للأسد وحده» بل ويمنع تداولها حتى في أوروبا، فاستلاب حرية الدفاع عن الممتلكات مثل المنظمات الفلسطينية التي في نظر الأسد إرهابية، وان الإرهاب يعني في نظرها حب السلام وحب السلام يعني إرهاباً .. «فأي اللغات يسمح لها النطق بها»؟؟ وهذه أعظم المشاكل بل المصائب لأنها تحاول تضييع الأمم من ثقافتها وبنائها الفكري وقيمها فيظهر مدى إحساس الكاتبة العميق بالخراب الذي يحيق بحضارة الأمم ولسان العرب الذي سرق وخصوصية الإنسان العربي.. فيخرج الإحساس بالوجع من أعماق أعماقها محترقاً مع الآخرين حين تراهم يحترقون فنعود إلى السؤال أي اللغات سوف يتم اختيارها .. لا شك ان السؤال ذاته يرمز إلى معنى آخر لأن اللغة الموحدة تم اختيارها وانتهى الأمر ..
يتذوق أجمل مقاطع القصة التي ساهمت البيئة بما تملك من موجات على قفز هذه الإرهاصات بخيال استشعرت به صورها وخيالاتها البسيطة وكأنها ابن المقفع في أدبه الصغير والكبير.. لغة الطيور! لغة السلام والحنان، ولكن لن يحدث ذلك لأنها لغة مؤثرة ومرغوبة لغة مبادئ وإنسانية تحمي الإنسان وتعبر عنه وترتقي به وتناضل من أجل فك الألم عنه، وتحقيق مطالبه وهي لغة الرحمة والطيور لغتها التسامح.
وتذكر ان الخيل لها جمال يفوق جمال النمور، وقد تتغلب عليها عندما تضرب بأرجلها الأمامية لذا قررت أن تستبعد هذه اللغة.. وفكر الأسد في النهيق لغة الحمير وتعني بالحمير الدول التي يتساوى وجودها وعدمه.. ولولا التوازن البيئي لتم إعدامها.. ثم فكر في لغة الأفاعي.. لغة اليهود الذي يشعر أمريكا دائماً بالغثيان وتنظر إليها الذئاب والنمور والثعالب «أوروبا» بأنها سموم خاصة بعدما كتب عنهم شكسبير في روايته الشهيرة «تاجر البندقية» وصورهم بالقذارة وكرّه الأوروبيين فيهم فقرروا التخلص منهم بإعطائهم أرض فلسطين.
ولم يظهر للأمل بريق ولم يبرق للتفاؤل أمل مما يدفع بالكاتبة إلى اختيار خاتمة متوقعة الصراخ.. وشد الشعر عما نشعر به من عجز وقهر.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved