Culture Magazine Monday  29/10/2007 G Issue 220
فضاءات
الأثنين 18 ,شوال 1428   العدد  220
 

الحداثة والخلافيَّة الخلاَّقة
يمنى العيد

 

 

يبدو مصطلح الحداثة في النقاشات العديدة والمتنوعة التي عرفتها الثقافات العربيَّة، في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، مصطلحاً خلافيَّاً لا يستوعبه مفهوم واحد قادر على وضعه في منظومة معرفية تماميَّة، أو على درجة في سياق تكاملي يبنيه كنظرية معرفيَّة.

وفي ظني أن سبب هذه الخلافيَّة يعود، في وجه هام منه، إلى طبيعة الحداثة نفسها، فهي، وفي التعريف الأكثر ملاءمة لطبيعتها، ديناميَّة لا تستقر على حال، قديمة ومعاصرة، وهي في كل أزمنتها موضع توافق وخلاف في الوقت نفسه.

وتوضيحاً، يمكن القول بأنَّ الحداثة غير قائمة بذاتها، وتُعتبر ديناميَّتها أساس ظواهرها، وأنَّ عدم استقرارها على حال راجع إلى ما هو تاريخي. بمعنى أن ظواهر الحداثة مشروطة بزمن الواقع وبما يعنيه هذا الواقع من علاقات اجتماعيَّة وسلوكات مجتمعيَّة، وأنماط في التعبير والحضارة والثقافة.

فالواقع، بكل بناه، وعلى مختلف مستوياته لا يستمر حيَّاً إلاّ بديناميَّةٍ له. أما وعينا الذي يتكوَّن بصفته أثراً لهذه الديناميَّة وفاعلاً فيها في آن، فإنما يتكوَّن باعتباره وعياً نقدياً يمارس فاعليَّته في تقويم هذه الظواهر التاريخيَّة وتعيين معالمها الحداثية. ما يجعل الحداثة تبدو علامةً على طبيعتها التاريخيَّة. وهي طبيعةٌ لا تقبل بتجوهر الوعي وتقولب تعبيراته، لأنَّ في ذلك ما يُدخلها، ويُدخله في زمن الثبات النازع إلى تماثله بذاته، وإلى الركود في القيم المطلقة، المظلَّلة بالتقديس، وهو مما يناقض طبيعة الحداثة التاريخية، ويفضي إلى جمود الوعي وتقولب التعبير.

تشكل الحداثة بطابعها الخلافي مصطلحاً له معنى التحوُّل النقدي، أو النقضي، لفعلٍ لا يمارس حضوره في الزمن إلاّ بتحوُّلاته النوعيَّة القائمة على حدِّ فواصل تتمرى فيها أحلامُ الناس بالحرية والعدالة والتقدم.. وقد تتحقق هذه التحولات أحياناً.

وإذا كان من الممكن الاتفاق على أن الحداثة هي ديناميَّة في العلاقة بالعالم والوعي به والإنتاج فيه، فإنَّ الخلاف في الكلام على الحداثة لا يعود خلافاً حول مفهومٍ نظريٍّ لها، بل يصبح خلافاً قائماً في النظر إلى ظواهر الحداثة في التَّعيين والتقويم، أي في النظر في حقول الممارسات الثقافيَّة عامة، وأشكال الإبداع خاصة. وذلك تبعاً للمواقع الناظرة، أو الرؤى الرائية، وللقيم المعرفيَّة والجماليَّة التي فيها، وفي حدودها، يكون النظر. وهو ما يجعل الخلاف حقل حوار ونقاش مفتوح، ويساهم في ديناميَّة الفعل الحداثي نفسه.

أقول إنه إذا كان من الممكن الكلام على الحداثة دون خلافٍ على طبيعتها، ومن حيث هي، أي هذه الطبيعة، ديناميَّة لا تستقر على حال، فإن من الممكن، بل ومن الطبيعي أن تكون الحداثة في ظواهرها وفي تعييناتها التاريخيَّة، موضوع خلاف هو، أي هذا الخلاف، في معناه الأعمق والحقيقي، حوار نقدي تحويلي، وهو بصفته هذه من ضرورات الحداثة المفهوميّة.

غير أن اللافت في النقاشات العربيَّة هو أن هذه الخلافيَّة العائدة، كما أشرنا، إلى طبيعة الحداثة، أدّت لدى البعض إلى طرح مفهوم الحداثة باعتباره إشكالية. وفي ظني أن الإشكالية ليست في الحداثة، بل في النظر إليها من موقع يؤطِّرها في التعريف المجرَّد والتحديد المطلق ويعزلها عن ظواهرها الثقافية، ويضعها خارج شرطها التاريخي. أو لنقل بأنَّ الإشكالية هي إشكال في النظر إلى الحداثة يعزلها عن طبيعتها، وينقلها من تحوُّلها في الثقافي - التاريخي إلى ثباتها فيه. أي أن الإشكال هو في معاندة طبيعة الحداثة والبحث، من ثم، عن مدلولاتها المفهوميّة خارج الوعي الثقافي وتشكلاته البنائية التعبيرية (في الأدب مثلاً).

تجد الحداثة الغربيَّة، مثلاً، مدلولاتها المفهوميَّة في الوعي الثقافي الغربي ومن حيث علاقة هذا الوعي النقدية بما عرفه الغرب من تحولات ماديَّة في علاقات الإنتاج ووسائله، كما في أنماط العيش والسلوك، ونظم الحضارة.. وهي تحولات ارتبطت، كما هو معلوم، بالثورة الصناعية وتطوراتها التكنولوجية اللاحقة. وهو ما يخولنا القول بأنَّ مدلولات الغربة والتهميش والعدميَّة مثلاً، والتي تجد دلالاتها في الأدب ومنظوراته وتشكلاته البنائية - التعبيرية، هي معالم حداثةٍ لا تسمح لنا بتحويل الحداثة إلى مجرد مفهوم، أو مصطلح فارغ، أو قالب نحشر فيه الحداثات الأخرى، أو نقيسها على مقاسه متجاوزين الشرط التاريخي وما يترتب عليه من اختلاف في مدلولات الحداثة ودلالاتها.

ليست الحداثة جوهراً ثابتاً، بل هي ناتج علاقات. وهي بصفتها هذه، ترفض ثباتها في نسق بنيتها التزامنيَّة المتشكِّلة في مفهوم لها.

تتحوَّل الحداثة، بمدلولاتها ودلالاتها، بتحوُّل ما يبني بنيتها المفهومية من عناصر ووفق حركة العلاقات في ما بين هذه العناصر. علماً بأنَّ حركة العلاقات هذه لا تقتصر، كما هو في النظرة البنيويَّة، على البعد الراهني للزمن، أي على ما يؤمن تكرارها ويُفضي إلى تأبُّدها. بل تعمل - حركة العلاقات - على أساس ما يتراكب ويتحوَّل تاريخياً ويدفعها لتجاوز نسق تزامنها.

ليست حركة العلاقات حركة أفقية تتحقق على مستوى واحد من مستوياتها - بل هي أيضاً - وفي الآن نفسه، حركة عامودية تتراكب فيها المستويات ما يجعلها تمارس اختلافاتها في التحقق وتنوعاتها في التشكُّل، وما يفضي، أحياناً، إلى نقلة نوعية في المسار. ما يعني أن حركة العلاقات بين عناصر البنية المفهومية، أو الاصطلاحية، للحداثة، هي حركة موسومة بالمرجعيّ الحي، أي بواقع اجتماعي يعيشه الناس بكل تعقداته، ومحمولاته الأركيولوجيَّة، وأشكال ظواهره وتنوع بناه وتعبيراته.

يخوِّلنا ما تقدَّم، على إيجازه، القبول بالصفة الخلافية للحداثة، أو القول بأنَّ الحداثة بدلالاتها ليست واحدة، لأنَّ علاقة الدَّال النظري المجرَّد بالمدلول هي علاقةٌ إنما تُنتج بالإحالة على مرجع ثقافي - اجتماعي - تاريخي. مرجع وإن كان له طابعه الخاص إلاّ أنه لا يتأطَّر فيه. أضف أنَّ مفهوم الإحالة يشير إلى أمرين:

الأول يفيد عن تشكُّل ظواهر الحداثة على مستوياتها المنزاحة، أو المفارقة، اختلافاً ولا مطابقةً، لمرجعياتها.

والثاني، وهو مترتب على الأول ويعني أن قراءة هذه الظواهر هي، وبحكم المفارقة للمرجع، هي قراءة تأويلية. وكل تأويل هو اختلاف وفق موقع ورؤية لهذه القراءة.

هكذا يتضاعف الاختلاف ويتنوع، ويكون علينا لا القبول به، بل الدخول في نقاش حول موضوعه، الذي هو الحداثة، والحوار حول معانيها وما يضمن ديناميتها الخلاَّقة الدَّالة على الخاص والمندرجة في الإنساني العام.

- بيروت


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة