Culture Magazine Monday  29/10/2007 G Issue 220
فضاءات
الأثنين 18 ,شوال 1428   العدد  220
 
قامة الصحفي القصيرة وأدب الحوار
أمل زاهد

 

 

أثار حديث الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي في ليلة القدر الكثير من ردود الأفعال الغاضبة والمستنكرة في مصر، ولكن رئيس تحرير جريدة الأهرام المصرية الأستاذ أسامة سرايا كتب مقالاً يحاول فيه دحض مقولات منتقدي الشيخ محمد سيد طنطاوي الذي أفتى بإجازة تنفيذ حد القذف في الصحفيين المروجين للشائعات، قائلاً إن حديثه كان تثقيفياً لعامة المسلمين وأن الحملة الشعواء التي أثيرت ضده يقودها أقلية تريد أن تفرض رأيها بالعنف والقوة على الغالبية، وأنه يأمل أن تصحو وتتعلم هذه الأقلية وأن تستفيد وتنضم إلى الأغلبية في تدعيم التطور والإصلاح الديموقراطي في مصر! ويؤكد أن الخطاب ذاته لم يتضمن كلمة واحدة عن الشائعات، كما لم يتطرق إلى تطبيق عقوبة الجلد في قضايا النشر، وأن كلماته لم تحمل تحريضاً ضد أحد.

ولكن الأستاذ سرايا نسي أو تناسى أن حديث الشيخ في ليلة القدر كان موصولاً بخطبة الجمعة السابقة والتي ألقاها في مسجد النور، واستعدى فيها السلطة على صحف المعارضة وحرم شراءها قائلاً: إن الصحف التي تنشر فيها الشائعات والأخبار غير الصادقة تستحق المقاطعة! وموصولاً أيضاً بباقي مواقف الشيخ في هذه القضية بالذات، وكان من الممكن اعتبار حديث الشيخ طنطاوي تثقيفياً لعامة المسلمين لولا ما سبقه ولولا اكفهرار المناخ الثقافي والأجواء المكهربة المتولدة من سجن أربع رؤساء تحرير في مصر! وكأن الشيخ يصب الزيت على النار في قضية ما زال لظاها يستعر في المشهد الثقافي المصري، ولا زالت تقلق المثقف المصري الذي يحلم برفع سقف حرية التعبير لتساهم الصحافة في تقويم مسيرة التطور والإصلاح. ولذلك تأتي حدة ردود الأفعال متسقة ومنسجمة مع خطورة حدث يسجل سابقة في تاريخ حرية التعبير في مصر لأن إلجام الأقلام يأتي اليوم متمترساً خلف ثوب القداسة الدينية! فكيف يمكن للصحفي أن يعمل ويفكر وسيف الجلد مسلطاً على رقبته؟! وكيف يمكنه أن يوثق معلوماته إذا غلّقت من دونه أبواب البحث والتقصي؟! وكيف يمكن لمسيرة إصلاح وتطور أن تتحرك قدماً دون آلية نقدية تقيل العاثر وتقوم الخطأ؟! وكيف يمكن أن تصبح الصحافة سلطة رابعة دون فتح أبواب حرية التعبير وإشراع الأبواب لصناعة الخبر أمام الصحفيين؟!

وليس صحيحاً أن الشيخ لم يأت بجديد لم يسبقه له الفقهاء في الأربعة عشر قرناً الماضية كما يقول الأستاذ سرايا، لأننا لا نستطيع أن تقتطعه من سياقاته ولا انتزاعه من قلب الأحداث التي يتأجج بها المشهد المصري، ولا نستطيع أيضا تجاهل الحمولات الخطيرة التي تتهدل منه خاصة وهو يصدر من مرجعية في حجم شيخ الأزهر الأول. ومن هنا تكمن خطورة فتوى الشيخ الذي هيجت الشارع الصحفي ليس فقط في مصر ولكن في العالم العربي بأسره، فلمصر مكانتها ولعلماء مصر وشيوخها وزنهم في تشكيل مفردات الخطاب الديني وفي تغيير مساراته.

وقد بدا لي عنوان مقالة سرايا صادماً بادئ ذي بدء، فهو يتحدث عن أدب الحوار مع الرموز! وكأن أدب الحوار لازماً وضرورياً فقط مع (الرموز)، وليس ثقافة يتحتم زرعها في مجتمعات تتبنى الأحادية وتدعي امتلاك الحقيقة المطلقة! فأدب الحوار ضرورة حتمية سواء كان هذا الحوار مع شخصية من المؤسسة الدينية أو (رمز) على حد قول سرايا أو مع مواطن عادي أو صحفي مغمور! والخطورة في خطاب سرايا تكمن في نصب قبب القداسة على شخص (الرموز) وفي تحصينهم ضد النقد، لتكمل الصورة التي خطها الشيخ طنطاوي نفسه بعبارة: نعم أنا حر وفوق المساءلة!! قافزاً فوق مقولة الإمام مالك: كل يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر! ثم أشار الإمام مالك إلى قبر الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه.

ولا أدري كيف استطاع سرايا أن يجد مخرجاً لعنوانه الصادم أو لمقولة الشيخ عن نفسه وعن كونه فوق المساءلة؟! ليتحفنا بفقرة في ذات المقالة يقول فيها: (ولم يقل أحد أن الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر قد أحاط نفسه بهالة أو قداسة ولم يفعلها احد له?.? ولكنه يظل رمزاً لمؤسسة دينيه لها مكانتها في الماضي والحاضر والمستقبل?). وهنا يقفز الأستاذ سرايا أيضاً على أن انتماء الشيخ لهذه المؤسسة العتيدة والراسخة في جذور العلم والعراقة هو ما يجعل كلامه في منتهى الخطورة، وهو ما يحمله مسؤولية حرجة ودقيقة تحتم عليه أن يتوخى الحذر وهو يلقي بتصريحاته وفتاويه ذات اليمين وذات اليسار.

من السهل جداً في عالمنا العربي السعيد إخراس قلم أو إلجام صوت، وجاهزية التهم القائمة على قراءة الضمائر والقلوب قادرة على رمي قلم بريء في غياهب السجون أو في أتون الإقصاء ومصادرة الرأي. بل من السهل جداً اغتيال صحفي لا يجد طرحه قبولاً، ولعل الصحفي الذي يعيش في منطقة متأججة كلبنان على سبيل المثال يحمل روحه على كفه وعلى كف انتمائه السياسي، كما يعيش كثير من الصحافيين في نواحٍ عديدة من العالم العربي على مرمى من الرصاص، وعلى قاب قوسين أو أدنى من النفي أو السجن. ولذلك لا حاجة بشيخ الأزهر الشريف ليخرج علينا بفتوى تجيز جلدهم وتشذيب أقلامهم، فهم أقصر الناس قامة حتى لو طالت أقلامهم ذات يوم مناطق محظورة بالشمع الأحمر!

- المدينة المنورة Amal_zahid@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة