Culture Magazine Monday  29/10/2007 G Issue 220
مسرح
الأثنين 18 ,شوال 1428   العدد  220
 
المفارقة في المسرح الشعري
د. نوال بنت ناصر السويلم

 

 

المفارقة (في أبسط تعريف لها: شكل من أشكال القول يساق فيه معنى ما، في حين يقصد منه معنى آخر، غالبا ما يكون مخالفا للمعنى السطحي الظاهر)(1).

والمفارقة كمصطلح نقدي (لم توجد في التراث العربي القديم، وإنما وجدت تحت مسميات أخرى اقتربت كثيرا من مغزاها.. مثل: التعريض، المدح بما يشبه الذم، والذم بما يشبه المدح، التورية، نوافر الأضداد، المطابقة.. أي أن الشاعر العربي القديم مارسها قبل أن يوضع لها (مصطلح نقدي عربي محدد))(2).

وقد نمت هذه الظاهرة في الشعر المعاصر، فهي ظاهرة فنية في لغة القصيدة الحديثة يستخدمها الشاعر المعاصر، (لإبراز التناقض بين طرفين متقابلين بينهما نوع من التناقض)(3).

وكامتداد فني لنمو الظاهرة في لغة القصيدة، كان للمفارقة حضورها الموفق في المسرحية على مستوى اللفظ والموقف، ولهذا الحضور ما يسوغه، فالمسرحية عالم من الأمزجة المتباينة، والعواطف والأفكار المتناقضة، والتحولات والانقلابات في مصائر الشخصيات، وكثير من المواقف فيها قائم على التناقض والتقابل، بل إن مفهوم الصراع الدرامي نفسه يشي بمضمون المفارقة.

وتعرف المفارقة ذات الصلة بالأحداث والمواقف (بالمفارقة الدرامية)(4)، وليس هنا مجال دراستها.

وتتجه الدراسة هنا إلى المفارقة على مستوى اللفظ لا الموقف لأن المفارقة اللفظية تعبير لغوي جمالي ووسيلة من وسائل تشكيل الصورة.

ومن أنماط المفارقة لون يعرف ب(الثنائية الضدية)(5) أو (مزج المتناقضات)(6) ويسميها أحدهم (الاستعادة التنافرية)(7)، وكل هذه المصطلحات تعني مفهوما واحدا هو (صورة بلاغية تقوم على الجمع بين شيئين متنافرين لا علاقة تجمع بينهما)(8) مثل هذا التركيب (الغباء الذكي) و(الليل الأبيض)(9).

ومنها في المسرحية الشعرية (الطفل العجوز) ويرد في قول وضاح في (الأميرة التي عشقت الشاعر) لأنس داود

كنّا طفلين عجوزين

شَبّ بنا الإدراكُ، نَمَتْ معرفةٌ بالعالم مُرَّةْ

أدركنا سرَّ العالم.. لا في أعوامٍ، أو أيام يا

سيدتي.. بل في نظرةْ

أدركنا أنا كنَّا مطحونين

وغريبين

أنا قد ولدتنا الأقدار عجوزين(10)

فالمفارقة هنا تتمثل في الثنائية المتضادة (طفلين عجوزين)، والتضاد بين الدلالتين يثير إيحاء نفسيا ومغزى عميقا تعجز الكلمة الواحدة بمفردها عن إثارته، كما أنها ترتفع بالأسلوب عن المباشرة إلى التعبير الفني الموحي.

إن الطفولة أولى المراحل العمرية في حياة الإنسان، ومن حقلها الدلالي: البراءة والحب، والجمال.. وغيرها من النعوت المشرقة، بيد أن وصف (طفلين) ب(عجوزين) تناقض يصدم خبرة المتلقي، فالشيخوخة آخر المراحل العمرية ومن المتعذر اجتماعها وتجسدها في الطفولة، ومن هنا تتحقق المفارقة فوضاح عاش ومحبوبته روضة الشيخوخة في أجمل فترات العمر. والبنية اللغوية لصورة (الطفلين العجوزين) فيها سلب لكل إيحاءات الطفولة، ونقل لكلمة (عجوزين) من دلالتها المعجمية إلى دلالة شعورية هي: البؤس والحرمان والعجز والحاجة إلى الآخر، وهذا هو المعنى الباطن في كلمة (عجوزين). يتجاوز دلالتها المعجمية إلى دلالة أخرى تنتج المفارقة. ومن الثنائيات المتضادة أيضا التركيب اللغوي (المفصحة الخرساء) في قول الأميرة للمتنبي في (الأميرة التي عشقت الشاعر) لأنس داود:

اهرب.. اهرب

وتسرب مثل الماء..

اهرب.. كالطير طليقا في الأجواء

من أجلي، من أجلك، من أجل الفقراء

كن مثل شعاع الشمس، ومثل عبير الزهر،

ومثل الخير، ومثل الشعر

ومثل الأمنية المفصحة الخرساء(11)

إذ تتمثل المفارقة هنا من خلال التنافر الدلالي بين (المفصحة) و(الخرساء)، والفصاحة صوت، ولها دلالة اصطلاحية أيضا هي: (الإبانة عن المعنى والإظهار له)(12) والأميرة لا تنشد من المتنبي حضور صوته فحسب بل وضوحه وجرأته في تعرية الفساد بكل ما أوتي هذا الصوت من لسن وبلاغة. لكن وصف (المفصحة) (بالخرساء) هدم للعلاقة اللغوية المألوفة بينهما، ومنحها علاقة جديدة قائمة على التضاد والتنافر لاستحالة الجمع بينهما.

واستنطاق المعنى الباطن في (خرساء) يعيد بناء العلاقة بينهما، ويؤلف التنافر اللغوي وفق ما تراه الأميرة. إذ تتجاوز كلمة (خرساء) دلالتها المعجمية إلى حقل دلالي آخر هو العمل السري والتواري عن أعين الرقباء. وحينما تحرض الأميرة المتنبي على الهرب لا تبغي منه إلجام صوته وكبت آرائه ووأد كلماته، بل تدعوه إلى الجهر بها ولكن في الخفاء، ويعضد هذا الصور المتراكمة في أول المقطع: (مثل الماء) و(كالطير طليقا) و(شعاع الشمس) و(عبير الزهر).

وهي صور حسية تحفزه على الحضور بشعره وهروبه بحسده. ومن هنا تنشأ المفارقة في سيرورة شعر المتنبي في الأمصار، واختفائه عن الأنظار.

ومن الثنائيات المتضادة المتكررة في المسرحيات (الصمت المتكلم)(13)، ومنه قول سعيد في (ليلى والمجنون) لصلاح عبد الصبور-:

لا أملك أن أتكلم

فليتكلم عن صمتي المفعم(14)

يعلن سعيد الشاعر المحبط عجزه عن الكلام في السطر الأول، وهذا العجز يمثل حالة من اليأس والتشاؤم، وضعف بوارق الأمل في إصلاح عصره. ويطرح بديلا له القدرة على البوح بما عجز عنه، وهو الصمت في قوله: (فليتكلم صمتي)، والدلالة المعجمية (ليتكلم) تعني الحديث والقول كما أن الدلالة الصرفية للفعل فيها حث على الكلام، وتحريض عليه، وهذا يعكس رغبته الملحة في البوح والفعل الإيجابي، لكن الفاعل (صمتي) سلبي ومخيب للآمال، ويخذل توقع المتلقي، ويحفزه إلى البحث عن المعنى الخفي، إذ تتضاد دلالة الصمت مع الكلام، ولا سبيل لائتلافهما إلا في منطق الشخصية وعالمها الداخلي. ومن هذا التضاد تنشأ المفارقة عبر نقل الدلالة اللغوية المعجمية من معنى الصمت إلى دلالة بلاغية شعورية هي: الحالة النفسية التي تسكنه وتسيطر عليه، فهو يلوذ بالصمت محبطا عاجزا من واقعه، فصمته حديث ولغة معبرة عن عجزه ورفضه وليس رضاه وقبوله. وتنمو هنا المفارقة باستبدال الصمت علامة القبول بالصمت الدال على الرفض وعدم الرضا.

ونلمح في المفارقة سخرية ممزوجة بالألم والحسرة من مواجهة الآخر بالصمت في وقت الكلام، أي الصمت في حين ينتظر منه الكلام، والسلبية بدلا من الفعل الإيجابي.

وفي النماذج السالفة تتحقق المفارقة من خلال التضاد بين الألفاظ ومزجها في بنائية متضادة، وقد تتحقق المفارقة أيضا من خلال التقابل بين صورتين في المقطع الحواري، بحيث يكون طرفا المفارقة متناقضين، مع أن المفترض توافقهما (أو بتعبير مقابل تقوم على افتراض ضرورة الاتفاق فيما واقعه الاختلاف)(15). ومن هذا اللون، قول الفلاح لرنسي في (حكاية من وادي الملح) لمحمد مهران لسيد:

أعرف أنك يا مولاي كبير القلب

أنت النيل المتدفق

والروح لهذي الأرض الخضراء

وإدام الفقراء

وشعير الأيتام وخبز المرضى والبؤساء

وملاذ الفلاحين

لكنك يا مولاي.. تحولت

لتفيض بأرض لا تحتاج الماء

هل تسمعني؟!

لا تحتاج الماء(16)

ففي هذا المقطع يسوق الفلاح سخريته المرة من بذخ رنسي في إغداقه خيرات البلدة على أتباعه، وحرمانه الفقراء والمعوزين، وهو يعبِّر عن ذلك بأسلوب المفارقة التصويرية. والطرف الأول فيها: حشد من الصور المعبرة عن رخاء البلدة وخيراتها من خلال تصوير رنسي المتصرِّف فيها والقابض على زمام الأمور بها، وتتآزر هذه الصور المفردة: (النيل المتدفق) و(الروح لهذي الأرض) و(إدام الفقراء)... إلخ لبناء صورة موحدة عن رنسي الكريم المعطاء المتفضل بالإحسان.

وفي الطرف الثاني يتم تدمير معالم الصورة المثالية، ونقض حقيقتها المزيفة، وبعبارة أخرى: تعرية الواقع؛ أي كشف ما هو واقع فعلاً. وفيها يتحول البذل والسخاء إلى الترف والبذخ وإهدار المال العام في غير وجوهه وبذله لمن لا يستحقونه، ومن هنا تنشأ المفارقة لاختلاف طرفيها المفترض توافقهما.

فسخاء رنسي غير المحدود يقتضي إتاحة موارد البلدة لأبنائها جميعاً، لكن ما هو كائن فعلاً هو احتكار فئة بعينها لهذا النعيم. وتزداد حدة المفارقة حين تكون هذه الفئة (لا تحتاج الماء)، ويفتقد كرم رنسي وسخاؤه معناه ما دام هناك من يتضورون جوعاً ويحرمون من التلذذ والمساواة في التنعم ورغد العيش.

ويعتمد محمد مهران السيد في (الحربة والسهم) على دلالة الفيضان أيضاً للتعبير عن الرخاء ورغد العيش، وبناء مفارقة قريبة مما سلف في مضمونها، كقول أحد الثوار:

قالوا إن العامة يطحنها الحرمان

لا تجد اليوم حنوط الموتى الأكفان

ضاقت سبل العيش وجف الضرع الملآن

خلت الأجران من الحنطة

سرق الأشرار من الدور الغبطة

ويموتون ألوفاً في زمن الفيضان(17)

فهنا تتمثل المفارقة في التناقض بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، والطرف الأول من المفارقة صورة مظلمة مؤلمة لواقع البلدة المنكوبة بالفقر والحرمان والقحط والموت كما تجسدها الأسطر الخمسة الأولى. لكن السطر الأخير (وهو الطرف الثاني في المفارقة) مخيب لتوقع المتلقي، ومثير للسخرية المرة؛ لأن البلدة تعيش في (زمن الفيضان)؛ أي الرخاء والثراء.

والصورة المنطقية هي تماثل الطرفين وتآلفهما لا تناقضهما؛ إذ رخاء البلدة كفيل برغد العيش لا نضوب الحياة وفناء الناس بالألوف. والمفارقة الحادة تعبر عن مغزى عميق يهدف إليه القائل، وهو لفت انتباه الثوار إلى الداء وبثّ حماستهم لاستئصال رموز الشر وتحرير خيرات البلدة من سطوتهم.

ومثال آخر على المفارقة: قول الأميرة في (بنت السلطان) لأنس داود:

هل يعشق زهرة

من يخنق بين يديه الأزهار

هل يرعى نبعاً

من يرمي فيه الأحجار

هل ينمو النبت، ويخضرُّ الزرع، وتينعُ فيه الأثمار

هل تورق أيّ من هذه الأشجار

إن لم تتفتح في ضوء الشمس

وتواعدها - في ولهٍ - بعض الأمطار

تسجنني في الحصن، تحاصر كل القلعة، ثم تحدثني

عن حبك لي؟(18)

ففي هذه المقطع تستنكر الأميرة عاطفة الجلمد المشبوبة تجاهها، وتبرز شكوكها في حبه وإخلاصه بأسلوب المفارقة التصويرية. والمفارقة - كما اتضح مما سبق - تقوم على استنكار التناقض، وتزداد حدةً في هذا المقطع بصياغتها في أسلوب الاستفهام الإنكاري؛ إذ تبرز المفارقة التناقض بين الظاهرة والباطن، الفعل والقول، السلوك والمشاعر. وما ينبغي أن تكون عليه الشخصية السوية المثالية هو التآلف بين سلوكها وعالمها الداخلي، لا التنافر؛ إذ إن أفعال الإنسان - عادةً - هي ترجمة لأقواله، ومرآة تعكس حقيقة مشاعره وصدقها. وعلى هذا تصبح مشاعر العاشق للطبيعة المدمر جمالها والعابث بأزهارها ونبعها مشاعر كاذبة زائفة. وتضرب الأميرة بهذه المفارقة مثلاً تدلِّل به على المفارقة التي تعيشها في الموقف الدرامي مع الجلمد؛ عاشقها وجلادها في الوقت نفسه، فبينما يبثها لواعج شوقه وحبه وحنينه إذا هو يحاصر القلعة، ويسعى إلى قتل السلطان. وتلخص المفارقة حيرة الأميرة إزاءه وقلة وثوقها بعاطفته وارتيابها منه.

* * *

هوامش

(1) سيزا قاسم، المفارقة في القص العربي المعاصر، مجلة فصول، مج2، ع2، يناير - فبراير - مارس 1982م، ص 144 .

(2) بدرية عبد الله السحيباني، المفارقة في الشعر العربي المعاصر، رسالة ماجستير، إشراف د. مسعد العطوي، كلية التربية 1418هـ - 1997م، ص 30 .

(3) د. علي عشري زايد، عن بناء القصيدة العربية الحديثة، ص 137 .

(4) المفارقة الدرامية: موقف في مسرحية يشترك فيه المؤلف مع جمهوره في معرفة ما تجهله شخصية ما من حقيقة، ومن ثم تتصرف بطريقة لا تتفق تماماً مع الظروف القائمة، أو تتوقع من القدر عكس ما يخبِّئه في طياته، أو تقول شيئاً تتوقع منه أن تكون فيه النتيجة الحقيقية، ولكن يحدث أن تأتي عكسية تماماً. وعلى أية حال، فإن المفارقة الدرامية ببساطة هي ما يعرفه المتفرج من حقائق لا تعرفها بعض الشخصيات الماثلة فوق خشبة المسرح. وتعدّ مأساة (الملك أوديب) لسوفوكليس خير الأمثلة على المفارقة الدرامية، وقد تُسمَّى في بعض الأحيان (بالمفارقة السوفوكلية). ومن الأمثلة عليها من المسرحية: يَعِدُ أوديب بالانتقام من قاتل لايوس الملك السابق، بينما هو نفسه قاتله (أوديب وأمه جوكاستا وخاله كريون لا يعرفون تلك الحقيقة، بينما يعرفها المتفرجون). انظر: السابق، ص 248. وبتوسُّع حولها انظر: خالد سليمان، المفارقة والأدب: دراسات في النظرية والتطبيق، عمان، دار الشروق، 1999م، ص 29-31، ص 85-98.

(5) انظر: د. مصطفى السعدني، المدخل اللغوي في نقد الشعر، ص 41، منشأة المعارف، الإسكندرية، د. ت.

(6) انظر: د. علي عشري زايد، عن بناء القصيدة العربية الحديثة، ص 184.

(7) انظر: د. موسى ربايعة، جماليات الأسلوب والتلقي، ص11، مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية والنشر والتوزيع، إربد - الأردن، ط1، 2000م.

(8) السابق.

(9) السابق، ص 11، 17 .

(10) مسرح أنس داود (الأميرة التي عشقت الشاعر)، ص 375 .

(11) السابق، ص 154 .

(12) أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري، كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر، ص7، تحقيق: علي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، 1406هـ - 1986م.

(13) انظر: محمد العفيفي (إراخت)، ص 145. و(شهريار ملكاً) للعفيفي، ص 51 .

(14) ليلى والمجنون، ص 75 .

(15) د. علي عشري زايد، عن بناء القصيدة العربية الحديثة، ص 137 .

(16) حكاية من وادي الملح، ص 62 .

(17) الحرية والسهم، ص 97 .

(18) مسرح أنس داود (بنت السلطان)، ص 28 .

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة