Culture Magazine Monday  29/10/2007 G Issue 220
نصوص
الأثنين 18 ,شوال 1428   العدد  220
 
قصة قصيرة
عندما يحلّق الفراش
شمس علي

 

 

عبثاً حاولت أن ألج دارنا، لا أعلم لمَ تسمرت قدماي أمام تلك البوابة الحديدية الصدئة، المتآكلة من وقع السنين التي بدت لي في تلك اللحظة كبوابة معتقل لن أتمكن من التملص من قبضة سجانيه وتحقيقهم القاسي.

دقات قلبي تسارعت، جسدي تفصد عرقاً بلّل ملابسي، وجنتاي المتوهجتان من حرارة الشمس ألهبهما الدمع. لا أعلم كم طال مكوثي على تلك الحال، لكن نظرات المارة المتلصصة تارة، والمتسائلة أخرى دفعتني لاقتحام بيتنا الذي ما إن وطأته، حتى فاضت ذكريات هذا الصباح المر.. ومن بين دموعي تراءى لي وجه معلمتي الصارم وهي تدس شهادة الثانوية العامة بيدي.. وحديثها المتهكم: ها قد أعدت السنة مرتين دون فائدة، لا تضيعي عمرك وابحثي لك عما يسد فراغ... وإن لم أدعها تكمل، لأن جريت وقتها لا ألوي على شيء، لا أصدق الآن أنني كدت أفقد عمري في لحظة مجنونة أثناء عبوري الطريق، وبأنني لم أبصر لون السيارة الأسود الفاحم الواضح في وسط النهار!.. ولم أسمع صوت الغناء الصاخب المنبعث من مذياعها وقد شارفت على قتلي؟!

دلفت إلى الداخل حيث عمّ السكون الذي لم يخدشه سوى صوت خفي أمي وهي تجوب المطبخ لإعداد الطعام ولم تشعر بدخولي لإنهماكها في العمل، وسيري بخفة متجهة نحو غرفتي القابعة في نهاية الممر التي ما إن فتحتها حتى لفحني هواء تكييفها المنعش لتتملكني البهجة والحيرة في آن، لأنني قمت بإطفاء التكييف قبل خروجي هذا الصباح؟! وزاد من توجسي رؤيتي للستارة مسدلة في حين أزحتها قبل مغادرتي؟!

كانت الغرفة غارقة في الظلام لولا بصيص ضياء تسلّل حال دخولي منعكساً على رخام الأرضية، حيث كانت المفاجأة بانتظاري، جثة هامدة؟!

مددت يداً ترتعش نحو الجدار أتحسس زر الإضاءة القريب من الباب، فاشتعل الضوء معرياً ملاءة مصفرة ككفن تغطي جسداً هزيلاً لا يبدو منه سوى باطن قدمين ناحلتين، وغابة شعر انحسرت عند شفتين دقيقتين وذقن مستدير.

بقلب وجل وخطى واهنة اقتربت من الجسد المسجى وحالما أزحت خصلات الشعر، اتسعت عيناني ذهولاً فقد عرفت فيه البنت المعاقة لإحدى قريباتنا، ودهشت كيف لم تخطر لي ببال وقد أكثرت أمي في الآونة الأخيرة تلميحاتها بضرورة جلبها بعض الوقت لبيتنا، شفقة بأمها النائية عن أهلها والتي ستضع مولودها الجديد عما قريب وأوضاعهم المادية تحول دون استقدام خادمة.

لكن كيف كانت ستخطر ببالي وقد تسبب مجرد طرح فكرة الإتيان بها بصدام بيني وبين أمي التي لم تتح لي وقتها فرصة لأوضح لها سبب اعتراضي ذاك وهو خوفي أن تغدو هذه المعاقة مصدراً لإثارة كوامن الحزن والأسى في نفسي المتوثبة للحياة.

كأنما تفجر سخطي عليها فجأة لتعتريني حالة هياج أخذت على أثرها أذرع الغرفة جيئة وذهاباً وقد ارتجفت أوصالي غضباً من أمي التي رغم علمها برفضي للمعاقة ها هي تضعها في عقر داري! وفي فورة غضبي تلك أطحت بتحفة نحاسية كانت تعتلي منضدتي ليحدث سقوطها دوياً أجفلني قبل أن يصيبها بنوبة تشنج حاد بدت معه كطائر مذبوح منتفض الأعضاء.

أدركتني بعض الشفقة عليها.. جثوت بالقرب من رأسها الملتوي.. لتلفحني أنفاسها الحارة.. وليعتصر قلبي منظر عينيها الجاحظتين.. وتشنج قسمات وجهها المرعوب.. والتفاف عنقها كمنشفة بلت وعصرت كثيراً.

أمسكت بيديها المعقوفتين وضممتهما بين راحتي يدي.. وشيئاً فشيئاً دبت فيها الطمأنينة.. سكنت أوصالها.. ارتخت عضلاتها المتشنجة.. وتبددت سحابة الخوف من عينيها الآسرتين.. اللتين طوقتاني بنظرة امتنان وابتسامة دافئة، جسرت عرى صداقة، ابتدأت بتعاطف أرهقتني توابعه، من إطعام كان بمثابة محنة لي ولها بسبب ارتخاء عضلات قصبتها الهوائية ومريئها، تنظيف شاق لجسدها المرتخي الذي لم يكن بأيسر حالاً من إطعامها، ورغم ذاك استلهمت من عينيها المشرقتين دروس الصبر، ومن محنتها القاسية قيمة الصحة، لتمضي علاقتنا على هذا المنوال.. وكلما تصرّمت الأيام ازددت حنواً عليها.

في إحدى الليالي المشرقة بضوء القمر.. تحقّق في منامي أمنيتي تجاهها، فرأيتها واقفة على قدميها الضعيفتين مرتدية حلة ربيعية ساحرة، كفراشة صغيرة بدت وهي تحاول الطيران وأبي المتوفى يمسك بيدها يشجعها؟!

استيقظت من منامي وقد غمرتني السكينة، وما إن هممت بالنهوض حتى اخترقت مسامعي جملة أمي الأخيرة قبل أن تغلق سماعة الهاتف (كانت ستكمل عامها العاشر، لكنها رحلت، ارتاحت وأراحت!) تسمرت، حيث كنت لتند عني شهقة عالية.. جاءت على أثرها أمي التي ما إن دخلت وتلاقت عيوننا حتى فاضت عيني بالدموع.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة