الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 29th November,2004 العدد : 85

الأثنين 17 ,شوال 1425

الرؤية الإنسانية في شعر البواردي
د. محمد صالح الشنطي
فلسفة التجديد ومنهج التجديد مفهومان ينبع أحدهما من الآخر ويتفرّع عنه، ولكن الفلسفة قارّة في الذهن مركوزة في الطبع، فإذا كان المبدع نزّاعاً إليها، توّاقاً إلى تحقيق مقولاتها متحوّلاً بها من مستوى النظرية إلى ميدان التحقيق ابتكر منهجه الخاص، وسعد البواردي ينطلق من هذه الفلسفة رؤية تحدوه إلى رؤية الحياة والكون من منظور مختلف، يتبدّى في مفارقة النظرة الكلاسيكية التقليدية التي تنبني في أحيان كثيرة على التجزيئية والغرضيّة الموروثة، حيث تتفتت رؤية المبدع إلى شظايا مضمونية تقعد به عن التصوّر الكلي للحياة والكون، فشاعرنا ذو نظرة إنسانية رحبة تبعد به عن الأفق المغلق المحدود بحدود (الفرص)، وترتحل به إلى ملامسة الهمّ الإنساني العام بفضائه المتسع ويحلّق في أجوائه بعيداً، ففي ديوانه (قصائد تخاطب الإنسان) يعبّر عن المدار الإنساني الذي تسبح في فلكه نبضات الشاعر المهموم بقضايا الإنسان في كل مكان دون اعتبار للونه أو جنسه أو انتمائه، وقد أدى منظوره الفسيح إلى اخضاع قصيدته لمستلزماتها وضروراتها، فلم يعبأ كثيراً بالمقاييس والمواصفات الجاهزة، بل انطلاق يفضي بما لديه من رؤى وأفكار، فكان تركيزه على المضامين الإنسانية المشبّعة بالمعاناة المخضّلة بالدم والدموع.
فلو أبحرنا في فضائه الشعري لوجدنا انه يختار التفعيلة وحدة وزينة ايقاعية متخلّصاً من أعباء القصيدة العمودية ليتحرر من قيود النظام الوزني الخليلي وإن بدا مهتماً بإبراز الطاقة الموسيقية بجهارتها وصخبها أحياناً، وهو لا يَزْوَرُّ عن المزاوجة بين لونين من ألوان الايقاع متمثلاً تفعيلتي المتدارك والمتقارب ليفصح عن تشبثه بجواهر الموقف الإنساني ومنظومة القيم التي يؤمن بها، إذ يتغنى بالبطولة والأبطال وان جسّد هذه القيمة في صور لا تحلّق بعيداً مع نوافر الخيال وجوامح التشكيل، إذ تظل النزعة الوجدانية بصفائها وشفافيتها تحكم الصياغة وتقنن مساراتها، ولا تفارق مداها المنظور، فالتشبيهات غير عصيّة على الرّصد، ولا تحتاج إلى التأويل بل تنساب في مباشرة غير جافية وابلاغ يندُّ عن العبارة المتعالية
وتزهد في الغموض والتعقيد وتختار ان تظل قريبة من العقل والشعور، وقد يعمد إلى إثراء الصورة وتخصيبها بالتداعي وما يولّده من ظلال وما يوحي به من فيوضات غامرة.
هناك في الجنوب من لبنان
يولد الأحرار
سنابل.. سامقة الأطوال
والظلال
حرة الثمار
من حبها العظيم
يطعم المساء والنهار
من حبها العظيم
ينزع الكبار والصغار
ثمة انسياب وتدفق وشفافية، فالشاعر لا يتكلّف ولا ينشغل أو يتفنن بل يبوح ويفضي بما يحسُّه ويراه، ولكنه يبدو شديد الحرص على القافية حتى يظل التيار الإيقاعي متصلاً متدفقاً، إنه ينتمي إلى الجيل الذي ظل حريصاً على الايقاع بمفهومه المألون في القصيدة التناظرية، وجعل تمرّده على الشكل الموروث محدوداً بحدود التحرر من القوالب الكلية، أما مفهومه للصورة وللتشكيل اللغوي فبقي على التخوم الفاصلة بين فلسفة التجديد بوصفها اقتناعاً بالضرورة ومنهج التجديد في إطار التصوّر العام لمعناه، فلم يضرب في فيافيه ولم يتشبّث بطرائقه لدى أنداده ممن حملوا لواءه ومضوا يرتادون مجاهله مستفيدين من تراكم منجزه عبر العقود القليلة التي أعقبت انطلاقته.
ومهما يكن من أمر فإن الشاعر من طلائع المجددين، ولم تخلُ قصائده من الصور المفاجئة الصادقة على نحو ما، وفي شعره العمودي حاول ان يجدد عبر البناء المقطعي واقترب من منهج التحديثيين الذين عمدوا إلى استيحاء التاريخ واستثمار الاسطورة فعمد إلى حشد الأعلام واستلهم اليرموك وذي قار من الوقائع التاريخية المشهودة وتنامى بالمد الانفعالي، وتعددت لديه الفضاءات المكانية فمضى في ذكر الفولكلند و(الجريناد) وايرلندا وبولندا وتشيلي وسلفادور ومانيلا وأرجواي وغيرها، في إطار رؤية إنسانية ملتزمة ورحبة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved