الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 29th November,2004 العدد : 85

الأثنين 17 ,شوال 1425

البلاغة العربية تشرب القهوة
هندسة الكلام للدكتور إبراهيم الغنيم *
د. عبدالله بن سليم الرشيد
للدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن الغنيم المتخصص في النقد الأستاذ المساعد في قسم البلاغة والنقد في كلية اللغة العربية بالرياض نفس تواقة إلى الجديد، طامحة إلى الانفكاك من ربقة التقليد، يحرص على أن يقول ما لم يقله الناس قبله، وتلك صفة عزيزة في الكاتب.
وقد أسدى للمكتبة في هذا العام كتاباً طريفاً لطيف الحجم يمكن عده مدخلاً للبلاغة الفطرية العابرة التي ربما نتكلم بها دون أن نشعر.
عنوان الكتاب (هندسة الكلام) وطرافته تبدو من أول صفحة، إذا جاء فيها ضمن عدة جمل قوله: (خذ حريتك.. ابدأ من أي صفحة وسجل خواطرك).
وجميل جداً أن يشعر القارئ بحرية قصوى في تصفح الكتاب، فيبدأ من حيث شاء، دون أن يحس بثقل التتابع والتماسك المنطقي.
وذلك التماسك والتتابع سمة عالية لا شك، ولكننا بحاجة إلى الانفلات منها ولو في كتاب عابر ك(هندسة الكلام).
وانفلات الكتاب من التتابع أدعى لارتباط القارئ العادي به، ولذلك تكثر في أيامنا هذه كتب تقوم على جمع النوادر والطرائف، أو تعرض القصص العربية القديمة، أو تكون على هيئة سؤال وجواب، فجامعوها يمارسون دوراً ترفيهياً في المقام الأول، ولهم في تعليله آراء، ولا عجب أن يجدوا رواجاً لأن القارئ الجاد في زماننا عزيز الوجود.
ولست مسوغاً على كل حال ذلك السيل من الكتب الخديجة النافرة عن المساق الثقافي الحقيقي، ولكني أجد في بعضها ما يشبع نهم قارئ عابر أو مطلع ملول.
وكتاب الدكتور إبراهيم الغنيم ليس من هذا النوع الذي تغلبه الرداءة، بل هو كما يتضح من نماذجه وأسلوبه نتاج خبرة تعليمية واطلاع واسع وقدرة على التجديد في العرض والأداء.
يجول المؤلف بالقارئ في رياض من الكلام المهندس الذي يفيض بالبراعة اللغوية، ويفيد من طاقات اللغة وجمالياتها، مقرباً البلاغة العربية بلباس عصري، يجعل قطوفها دانية،
ويورث حميمية بينها وبين من يتلقونها.
وقد وصفته بذلك، لأنه عمد إلى عرض أساليب المتكلمين وعلق عليها مبيناً مواضع الإثارة اللغوية والجمال الفني دون تقعيد منطقي ثقيل.
وقد كاد يستوعب فنون البلاغة العربية وما انضاف إليها على مر العصور، ولكن بطريقته الخاصة، وبنماذجه الجديدة وتعليقاته الشارحة بلطف وجمال وقدرة وتمكن.
فهو يورد (ص67) قولهم: (إذا طلعت النثرة، نشأت البسرة)
ثم يعلق:
(عبارات قصيرة، تتشابه مفرداتها في الحركات والسكنات، وتتوافق في الحروف الأخيرة) ويضيف:
(يطرب السامع للكلام المنغم، ويحفظه في ذاكرته بسهولة ويفيد منه دائماً) وهذا تأصيل لطيف سهل الفهم والتناول لإدراك قيمة السجع في الكلام، وأهمية تقطيع الجمل. ومثل هذا الأسلوب وإن تنكبه الكتاب مهم في المقام التعليمي ولا غنى عنه وعن إدراك جمالياته لمن يدرس تراث العرب.
وفي (ص69) يقيد رؤيته لما سماه البلاغيون القدماء (التشبيه المقلوب) وسماه هو (المنكوس) فتأتي هذه الرؤية جديدة في لغتها بديعة في إقناع القارئ، يقول:
(أحمد أفضلهم خلقاً بلا شك، أرأيت هذه الحلوى اللذيذة؟! كأنها أخلاقه.
ثم يعلق:
(حس التذوق باللسان يكشف حلاوة الحلوى، وتتشابه الحلوى والأخلاق الحسنة في صفة القبول، فأصبح بالإمكان تخيلهما متشابهين في الحلاوة المدركة باللسان، ثم أصبح بالإمكان تعميق الخيال لتكون الحلاوة في
الأخلاق أعظم).
ثم يعقب:
(تحت تأثير العاطفة القوية تتضخم الصفة حتى تكون أعظم من الأنموذج).
إنه أسلوب لطيف مهم جداً وبخاصة لمن يدرسون البلاغة، فهذه الطريقة تقرب فنونها وتجعلها سهلة التناول والإدراك.
وفي (المجاز) يورد تعليقاً على نص فيه شيء منه، ولكنه لم يعمد إلى وضع العنوان علمياً مدرسياً بل جعله (الزمان المسيطر) إدراكاً منه لأهمية أن يلح على روح النص، بعيداً عن التقعيد الذي ربما نفر القارئ، يقول (ص104):
(أثبتت الأعوام جودة هذا المنتج) ثم يعلق على الجملة قائلاً:
(أصل هذا الكلام: ثبتت جودة هذا المنتج في الأعوام) ويضيف:
(نحصل على إيحاءات جديدة عندما نركز على زمن الشيء ونجعله في مكانة الفاعل، لأن الزمن عنصر محايد في إحداث الأفعال)
ثم يتبعه بعنوان (المكان المسيطر)، ويقول (105) مورداً نموذجاً:
(وخرجت القرية لمشاهدة البركان الثائر، حيث سال الوادي بالحمم..)
ثم يعلق:
(نجعل المكان بديلاً عمن فيه) ويضيف:
(نتصور ما ندركه بأبصارنا مقترناً دائماً بمكان، وهذا الاقتران الدائم يتيح لنا أن نعبر بمكان الشيء عندما نتحدث عن الشيء، وعند ذلك يوحي الكلام بأن كل ما
هو مظروف في المكان فهو مقصود).
وتحت عنوان (الجزء المسيطر) يعرض خلاصة الكلام حول قول البلاغيين (عبر بالجزء وأراد الكل) بمهارة مبتدئاً بمثال (ص106): (لم يستطع أيمن أن يطلب يد ابنة جاره، إلا بعد أن باع ثلاثة عشر رأساً من غنمه، ودفعها مهراً)
ثم علق:
(جزء الشيء يدل على باقيه، والإمساك باليد يدل على الصحبة، كما أن امتلاك رأس الخروف الحي يدل على امتلاك الخروف).
وأضاف: (الأجزاء لا تتفرق عادة، ويحصل الشيء بحصول جزء مهم منه، ومن هنا أمكن التعبير بالجزء).
إنها طريقة ملائمة لإخراج البلاغة العربية القديمة من نفق ما زالت تسير فيه حسرى كليلة، وما أحوج تلك البلاغة المظلومة إلى أن تنفك من أسر بلاغيين لا يعرفون من البلاغة إلا طريقة القدماء وشواهدهم وأمثلتهم ونعمّا هي في زمانها وبين أهلها ولكن المشكلة فيمن لا يخرجون عن المثال القديم ولا يدركون أبعاد البلاغة الفطرية ولا يسعون إلى تقريبها للأذهان بمثل هذا الإشراف.
وفي بعض أبواب المعاني يورد المؤلف عنواناً هو (الحصر الادعائي) (ص118) فيمثل بدءاً ب(لا خطاط إلا عدنان) ثم يعلق شارحاً المظهر البلاغي في هذا الأسلوب:
(قد يتجاهل المتكلم أكثر الفاعلين ويحصر الفعل في معين مدعياً الحقيقة، من أجل لفت النظر إلى امتياز الفاعل المعين).
وتحت عنوان (الخبر الناهي) يورد مثلاً (ص120):
(الحارس لقائد السيارة: نظام المرور لا يسمح بإيقاف السيارة هنا) ثم يعلق:
(لم يقل: لا تقف هنا، بل بين نظام الوقوف، ففهم قائد السيارة أن الحارس يمنعه من الوقوف تبعاً للقانون)
والخلاصة التي تهندس بها كلامك:
(يستطيع المتكلم التلطف في النهي مكتفياً بالإخبار بسبب النهي).
ولم يسع الدكتور إبراهيم الغنيم لعرض البلاغة التي سماها (هندسة الكلام) بتلك الطريقة كما أظن إلا لأنه مدرك أهمية ربد البلاغة بأساليب العصر، وتقريب جماليات التعبير بأسلوب فيه طراوة وعليه طلاوة.
وكأنما شعر أن للقارئ حق المشاركة في تلمس جوانب البلاغة ففسح حيزاً في كل صفحة للتعليق وإعمال الخواطر، ولم يكتف بذلك، بل بث بين رؤاه وتعليقاته طرائف ونوادر تزيد القارئ بهجة وتحفزه على القياس وجمع النظائر.
إن تلك الطريقة التي نهجها الدكتور إبراهيم فيما أرى على جانب من الأهمية كبير، في زمن تعاني فيه البلاغة العربية ازوراراً من دارسيها وهجوماً من العاجزين عنها، وفي وسع كل متبحر فيها أن يشارك في إعادة العرض وتجديد الخطاب، حتى تبقى البلاغة العربية الرائعة جليساً أنيساً يشاركنا قهوة الصباح، ويتصفح الجرائد ويجاذبنا أطراف الحديث:
منى إن تكن حقاً أحسن المنى
وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً

*هندسة الكلام، د. إبراهيم بن عبدالرحمن الغنيم، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1425هـ 2004م.

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved