الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 30th January,2006 العدد : 138

الأثنين 30 ,ذو الحجة 1427

ممكنات النهضة الإسلامية
ميشيل كيلو

ثمة ممكنات وعناصر نهضة جدية في الإسلام، لكن العقل الإسلامي يوليها أهمية تالية، لاعتبارات شتى تتصل بما ساد فيه من مناهج، وغلب عليه من اتجاهات ونوازع. ولعل أعظم ممكنات وعناصر النهضة يكمن في اعتبار الإنسان مستخلفاً في الأرض بعد أن كانت الدعوة المحمدية قد اكتملت. وهذا أمر على قدر عظيم من الأهمية، وله دلالات ومعاني حاسمة بالنسبة إلى آفاق النهضة المنتظرة التي يمكن أن تكون إسلامية أيضاً، كما يمكن للإسلام لعب دور رئيس فيها إن تأسست على الإنسان بما هو كلمة الله الأخيرة في الدين، وحلت في العقل والممارسة الإسلاميين محل المؤمن الذي هو صفة من صفات الإنسان الذي يمكن أن يكون مؤمناً ويمكن أن لا يكون كذلك، ويتساوى فيه جميع المؤمنين، بينما لا يتساوى جميع خلق الله في الإيمان. لا أريد التوسع في هذه النقطة، لذلك أقول باختصار إن الإنسان قد يتعين بإيمانه وقد لا يتعين، بينما هو دوماً وفي جميع الظروف كائن حر ويستحق الحرية، مهما كانت سماته الملموسة في الوجود والسياسة والمجتمع. إذا ما بني فكر النهضة الإسلامي على هذه الركيزة الإلهية التي تجعل الإنسان ذاتاً حرة وجديرة بالحرية، بغض النظر عن تعييناتها، اشتمل على كل ما يمكن لأي فكر آخر حمله، وصار منفتحاً من جهة عليه، وقادراً من جهة أخرى على تغيير واقع العرب، بدءاً بتغيير ما بأنفسهم، أي بتحويل العربي والمسلم إلى حامل لتحرره الذاتي من ضمن مشروع إنساني هدفه تحرير العالم البشري بأسره، باعتبار أن النهضة، من أي نوع كانت وبأي فكر حدثت، ستبقى مستحيلة التحقيق دون الإنسان الحر كركيزة وكحامل، وما دامت العمومية العامة التي سيتم فيها التحرر الإنساني، مستحيلة التكون والقيام دون هذه الركيزة بما هي أصل السياسة والشأن العام، وتالياً أصل أي تدبير فردي أو مجتمعي، خصوصاً إن كان سينهض على المساواة والعدالة.
لا حاجة إلى التأكيد على أن البناء على الإنسان الحر كأرضية تصلح لتأسيس مجتمع عادل، هو أيضاً شرط أية نهضة تستحق اسمها، ترى الأمور بدلالته، أي بدلالة الحرية، القاسم المشترك بين جميع محاولات النهوض العالمي الحديث الذي كان حقيقياً في النهضة الأوروبية، ومفترضاً في العربية - الإسلامية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، لذلك نجحت الأولى، على ما شابها من عيوب وظهر فيها من نقاط ضعف، وفشلت الثانية، على ما توفر لها من زخم ورغم الحاجة الحقيقية إليها. بكلام آخر: ليس السبب في فشل النهضة الحديثة عندنا راجعاً إلى العاملين الذين سبق ذكرهما في القسم الأول من هاتين المقالتين.. إنه فشلنا يرجع إلى سبب رئيس هو أن نهضتنا لم تنطلق من الحرية بصفتها الخاصة الرئيس للإنسان التي بها يعرف ويوجد. لذلك فاتها هذا الأمر الجوهري، وانصرف نظرها إلى قضايا ثانوية، أخذتها إلى مواقع جعلت تحقيقها ضرباً من المحال، إما لأنها بتجاهل الأمر الرئيس تجاهلت قضاياه، أو لأنها بنت على جزئيات ثانوية نهضة أتت بدورها جزئية، فعجزت عن تلبية ما كان منتظراً منها، إلى أن تخلى العرب عنها، لاعتقادهم الصحيح أنها لا تفيدهم، وليست كلمتهم الأخيرة.
السؤال الذي تطرحه هذه الفكرة هو التالي: هل الأجواء الفكرية والسياسية والثقافية السائدة عندنا مهيأة لتقبل هذا التحديد، وللانطلاق من الإنسان كذات حرة لا بد من رؤية كل شيء آخر بدلالته، وتالياً بناء مجتمع هو ركيزته ودولة تنمي حريته؟ إذا كان هذا ممكناً، كانت النهضة الإسلامية في متناول أيدينا، وكانت من الشمول والعمق بحيث تغنينا عن أي شيء عداها، وكان فيها نجاتنا، راهناً ومستقبلاً. أما إذا كنا سننطلق من نهضة تجعل الإنسان تابعاً أو ملحقاً لتكوينات هو تابع أو تالٍ لها، وإذا كنا سنراه بدلالات لا تتصل بجوهره الحر، فإن انطلاقتنا ستكون خاطئة، ونتيجتها ستكون فشلاً يفوق في خطورته ونتائجه فشل نهضة القرنين الماضيين، وستكون النهضة الإسلامية جزءاً من سقوطنا التاريخي، وليست رداً عليه. عندئذ، سنجد أنفسنا في مواجهة مأزق رهيب أفظع من أي مأزق واجهنا خلال القرون الثلاثة الماضية يعبر عنه السؤال الآتي: ماذا يبقى لنا بعد إخفاق النهضة الإسلامية؛ ردنا على فشل محاولات نهوضنا الليبرالية والقومية والاشتراكية والقومية - الاشتراكية، غير الهلاك العام أو تأسيس نهضة أرضيتها الإنسان الحر؟ في هذه الحالة، لماذا لا تنطلق النهضة الإسلامية من هذا الإنسان، تنفيذا لتوصية إلهية باستخلاف الإنسان في الأرض، فيكون فيها سبيلنا إلى العالم الحديث، وفق شروطنا التي تتفق مع ظروفنا وهويتنا وتاريخنا وثقافتنا؟
ليس مشروع النهضة الإسلامي ممكناً دون هذه المنطلق. وليس هذا المنطلق إلا في بداياته الأولى، لأننا لا نجد تعبيراته وترجماته إلا في القليل والنادر من فكر المفكرين الإسلاميين المعاصرين الذين يجنح معظمهم بالأحرى إلى نقيضه، لاعتقادهم أن نقيضه هو الأصل، وأنه ليس غير فرع مدسوس على الإسلام والمسلمين، من واجبهم تجاهله، وإلا هلكوا وتحولوا إلى أدوات بيد غيرهم، كأن الإنسان اختراع أوروبي أو كأن العرب والمسلمين بنوا مجد الإنسانية الغابر بأدوات وأفكار معادية له، وحصنوا أنفسهم خلال الحقبة الاستعمارية ضده، وليس ضد انتهاك حقه في الكرامة والوجود!
يطرح إخفاق النهضة الحديثة علينا مهمة خاصة تتصل بضرورة إنجاح نهضتنا التالية التي يزكيها التاريخ والواقع، وتمس حاجتنا إليها. هل ننجز هذه النهضة أم نضيع فرصتها، فيضيع معها أوطان وبشر وفرص، ونبقى فريسة في يد الآخرين الذين لا يريدون لنا حرية أو كرامة، مع أننا نزعم دوماً بلوغنا سن الرشد، ونؤكد أننا تعلمنا من تجارب القرنين المنصرمين ما يجعلنا أهلاً للسيطرة على القرون القادمة؟
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved