الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 30th January,2006 العدد : 138

الأثنين 30 ,ذو الحجة 1427

استراحة داخل صومعة الفكر
وإذا الأمس آت غداً
إبراهيم المثنى الغامدي
245 صفحة من القطع المتوسط
الأمس لا يعيد نفسه.. ولا اليوم يسبق غده.. حتى ولا حاولنا جاهدين مجهدين.. قد نسترجع ما خسرنا فيه.. إلا أننا لا نسترجعه كمرحلة عمر.. ولمحة سفر.. ولكن لماذا أستبقُ الحكم على شعر لم أقرأه.. ربما أجد فيه قناعة رؤية غابت عن بالي أستعيدُها معه موافقاً ومثقفاً..
بادئ ذي بدء أعتذر لشاعرنا إذا ما اختزلت الكثير من عناوينه لكثرتها الكاثرة وفق ما تسمح به مساحة التناول.. بداية مع أولى محطاته:
لأمته السلامية وقد تجاوزت المليار بثلثه يتوجه بندائه:
أيا مليار أمتنا دمائي
تناديكم فمن يفدي ندائي
أسير على بقايا من رفاتي
وأنتم لا يحرككم رجائي..
أراني اليوم والأقصى أسير
وقد ألفت مآذنه بكائي
فلا تجديك يا أقصى دموعي
وما يجديك يا أقصى غنائي
أبيات بليغة أربعة تختصر دلالات قصيدته الطويلة.. يكاد ينتحر فيها أمل دغدعده وتملك خواطره.. أنا معك يا صديقي إن من تعنيهم ينامون لا يوقظهم إلا طوفان كطوفان تسونامي هذا إن أعطى لهم الصحوة. والأمر لله من قبل ومن بعد.
ولأن اليأس مطيته فقد ركب بساطه باحثاً عن شيء مفقود:
مالي وما لليل ساعات طوال
حيرانة أوراق شعري في الخيال
تتحكم الأقمار فوق وسادتي
وسماء قريتنا سؤال في سؤال
هذا هو المدخل الشاعري الجميل.. ماذا وراء الداخل؟!
كنا معاً بالأمس له جالسين
على بساطي عند مفترق التلال
كانت تود بأن يطول لقاؤنا
ونور لو نقس الهوى فوق الرمال
واليوم تهجرني وتنسى لحظة
فيها تعانقنا وقلنا ما يقال
ماذا جرى لحبيبتي؟ ما بالها
رسمت حروف البعد في لوح الوصال
أشعر بهذا الخيال الرائع أنني أمام شاعر ملهم يحسن رسم الصورة بلحاظها وتقاسيمها ورومانسيتها.. أما ماذا جرى فأمر محير..!
أدع جدار الأمس للأمس فقد تهاوت أركانه على وقع غضبة الزمن.. يهمني جدار اليوم، وأخبار القوم.. ومرابض الصحوة والنوم. النوم.
(حيرة) تملك ذهن شاعرنا يبحث لها عن مخرج.. اختزل منها هذا الشطر المعبر الذي لا يحتاج إلى تفسير ولا تعليق:
أصبحت غريباً في وطن
يكتبني شعراً لا ينشد
فرحلت بعيداً في زمن
لا أجد القلب به يسعد
لأن الشعر الذي يوقظه غير صالح للإنشاد.. رحلتك عن الزمن لا تعفيك من أن تُنشد شعرك لربما يوقظ صحوة نائم.
ولأن الأحلام نجوى.. فيها عشق ليل على أنغام قيثارة حب..
سكنت الحب بستانا وقصرا
فما اسطاع النوى قفزاً لسوري
خيراً اخترت.. وسكنت.. وأمنت على قلبك، وعقلك من لصوصية القلب والعقل.. غنى لولديه.. وغنى لأمه فيهما وجد نفسه لولديه قال:
رأيتكما فكان البوح حتما
وكان الشعر يا ولدي نشوى
وغنى لأمه فقال:
لو أن الدين شغلتني
وعزمت رحيلاً يبعدني
فالشوق سيمكث يبعدني
لأعود لقلب يحضنني
أبيات ثلاثة تختزل في تجاويفها كل معاني البنوة والأبوة.. كم أنت رائع.. (هو الحزن كما هو) مقطوعة معبرة أقتطع منها:
وستبكي يوماً يا قلبي
ليعود الحزن كما كان
وستعرف أنك لن تنجو
وسيبقى همك أزمانا
ذكرتني بقارئة فنجان نزار قباني.. بيتان عن قصيدة طويلة نجترها نحن الشعراء دون خجل تحمل قارئها على الملل، (لا فض فوك)..
شاعرنا الإبداعي إبراهيم الغامدي رجع إلى نفسه يُرجع لها لحونه:
أبكي وأضحك إن يومي كان
سلفا وأنت النفس حولي تدركين
لا زلت اغرف من شظايا الخوف
ما يدمي قوامي إنه ما تعلمين
القصيدة تنزع إلى التصور التأملي النفسي من خلال مقاطع متباينة إلا إلا أنها مشدودة إلى بعضها أشبه بحلقات السلسلة منها:
وأموت، أحيا في الحياة وأبتغي
أني إذا ما كنت الشقا سترحلين
فدعي مكانا فيه أرجو راحتي
ودعي بقائي أنني موت يحين
(ثقاب الأمس) إحدى محطات قافلته الشعرية..
منقبة فلا خلعت نقابا
لو جد الأمس، أو ردت جوابا
أكلم عينها الكحلاء شوقا
فتبدو حين تلمحني اضطرابا
لعله اضطراب الخجل والعفة أفزعَها عن نظرات شاخصة إليها خشيت منها لأنها لم تعتدها..
حمل ثقيل ينوء بكاهله كل منا حين لا يرى شمس نهاره.. ولا هدوء ليله.. إن الشكوى تبدو مُرة.
نهاري شمسه دوما تغيب
وليلي قاتم، مر غريب
ودوما نظرة الأحداث بؤس
وسيل الحزن من قلبي صبيب
يروعني سراب الأمس فكراً
ويشقيني إذا نطق النحيب
ماذا أبقيت لنفسك يا عزيزي.. لليأس حد اسمه إرادة الحياة التي لا تستسلم دائماً تقاوم، لا تركع وإنما تساوم، الحياة معركة..
(كأنكِ) هكذا عنون قصيدته لسارقة أحلامه:
كأنكِ قد بلغت القول جهدا
وما كنت التي تخفين ردا
أقارئتي وأشعاري رثاء
كأنك قد نطقت الموت سردا
تناسى قلبك الأيام قربا
كأنكِ قد ألفتِ الآن بعدا
ولأنها سرابية ألقى في وجهها خطاب كبرياء:
كأنكِ لم تكوني اليوم شيئا
وما كنتِ التي أهواكِ سهدا
العاشقون المغرمون بصباهم وصبوتهم يلجأون كثيراً إلى التحية يمتطون مراكبه التي تدور حول نفسها في حيرة بلهاء..
مركبتي تختار مسارا
وضميري يعلن إصراري
ورحيلي بؤس اجرعه
ودموعي تبكي أقداري
والبحر كبير وكبير
وسيمكث دهراً إبحاري
حتى يوصلني شاطئه
من حيث سيبدأ مشواري
ولأن غرامه لا ينتهي عند حد.. وبكل الوسائل الممكنة اختار لنفسه هذه المرة نافذة غرام يطل منها:
الليل أجمل ما يكون من السكون
وجمالك الأخاذ أجمل ما يكون
وبقرب نافذة الغرام شموعنا
والشعر في عينيك يسبح في الحنين
هكذا رآها في عينيه قصيدة وفاء:
إني رأيتك في الوفاء قصيدة
فتبسمي حسناً جميلاً في العيون
شاعرنا يتهم العمر بالجهل.. فهل معه حق؟
ما كانت الأيام تدري ما القدر
الا وكل العمر يسأل ما الخبر؟
وتر، وعزف، والبدايات التي
كانت تحدثني وتمنحني الصور
إني على حال، وبؤس ظالم
إني على شؤم يمكنه الحذر
تبدو لي الأيام صعبا حالها
غم، وهم صاغه جور البشر
أقول لصاحبنا مقولة ذلك الشاعر:
دع المغادير تجري في اعنتها
ولا تبيتن إلا خالي البال
ما استطعت إلى هذا سبيلا: الحياة قدر لا خيار لنا فيه لنا فيه يوم مسرة، ولنا فيه يوم مضرة.. المحتسبون لأقدارهم هم الأقوياء.
مداد الأمس في ذاكرة شاعرتنا مليء بالسواد.. وأوراقه مليئة بالثقوب. هذا ما أوحت به أبياته المقهورة:
يجيء الأمس مذعورا
ويومي ليس يحميني
وأوراقي مبعثرة
ووجهي ليس يخفيني
ومالي حيلة أبدا
ومالي من يواسيني
واطلال تحدث نفسي
فمن ذا اليوم يبكيني
بلى.. يا صديقي.. لكي تبرأ من انهزامية الموقف لديك سلاح الجلد.. إنه يقضي على الشماتة.. وجحود الناس: جربه:
وتجلدي للشامتين اريهموا
إني لريب الدهر لا اتزعزع
كثافة التوصيف والتوظيف للمفردات طاغية في بنائه الشعري.. أجمل ما فيها أنها تنزع إلى صور مختلفة لا تخل بالسرد وإن كانت ترهقه..
فمثلاً مقطوعته (كأني) ذات الستة عشر بيتاً سيطرت عليها المفردة ذاتها ثماني مرات دلالةً على التشبيه الذكي
كأني لم أكن بالأمس جدا
وما كنت الذي أهداك وردا
كأني ما عشقت البوح حرفا
كأني لم أصن في القلب ودا
المقطوعة تطرح السؤال: لماذا يلجأ الشاعر وقد مر بضائقة يعرفها من حوله أن يذكر بها وهي معلومة؟ أليست النكران والتجاهل؟
في كتاب جده ومن كتابه قرأ الكثير وطرحه درساً مستفاداً:
هذا كتاب ليس فيه مقدمة
صفحاته بيضاء غير مرقمه
في حرفه قول عظيم غامض
بوابة الحب العظيم محطمه
ود لو أن منها ما رأيت دموعها
إلا وشيئاً في الفؤاد وهمهمه
وفي مواساته منه يناشد بوابة الحب العظيم القديم أن تصبر لأن الصبر مكرمة.. نصيحة حكيم ملؤها الحكمة..
(الزمن الآتي) يستقبله عن بُعد رغم أن ملامحه غيبية لم تظهر:
الريح تقاتل أشرعتي
تهتك في الأيام مسيري
لا جزر ارسو فيها
لا شطئان تؤذيني..
ماذا يطلب؟ بل ماذا ينتظر.. حاضره حاضر ألم عرفناه.. مستقبله يرسمه على جناح المستقبل أمنيات مسكونة بالانتظار:
سأظل رهيناً منقاداً لحياة تبدو أزهى
سيكون هناك رفاق، وتكون النشوى
أمل يبدو أجمل كانت آمال
سعداء سنرقى، نتفانى لا نحمل أثقالا
منا الدعاء ومن الله الاستجابة.. لعل، وعسى..
(النورس) مقطوعة تحلق مع طائر النورس في فضاءاته.. تحاول انتزاع ما يجيش في صدره نحو الطائر من رؤى.. لا طقة بلسانه
لا شيء هناك سيعرفني
لا شيء هناك سيذكرني
الخوف جدار من طين
والبيت جحود يقتلني
وسماء القرية لا تخفي
ليل يتحول في الشجن
ألبس أقنعة واقية
الوجه.. جميل يأسرني
فطيور النورس معركة
يجهلها موج طوقني
ستطير اليوم محلقة
وبعيداً عنه ستأخذني
وأعود أعود لشطئاني
كي أعرف شيئاً عن وطني
هل تمنى أن يكون نورساً يهاجر إلى حيث يطيب له المكان؟!
البؤساء لشاعرنا.. ومثلها بؤساء فيكتور هيجو.. الدراما مختلفة متباعدة إلا أن محورها البؤس والشقاء والمعاناة يقول الغامدي:
القلم سيكتب آلامي
فالحبر تأوه في قلمي
والدفتر في لحظة إحساس يقلب صفحة تاريخي
أتساءل ماذا يسكنني في يوم جنوني؟
هل تخفني شيئاً أسئلتي؟
أجوبتي ما كنت أراها تنصفني
الموت سيلعن رحلته
لكني لا أحمل زاداً لمعادي
ما كنت لوجه المأتم رساما
خارطتي يجهلها البحار دليلا
كل لا أعرف بعد رحيلي
ورحيلي في عين البؤساء
سيكون أكفانا.. فدعوني أحزمتي
فالوقت يداهمني امرا
قد لا أجد الأسفار بداخلها
فهواياتي تبدو سرا..
خطأ مطبعي ألفت نظر الشاعر الكريم إليه.. يكمن في جملة (فدعوني أحزمتي) وصحتها (فدعوا لي أحزمتي).. القصيدة مغلفة بضباب الفكرة لم تستكمل عناصرها الموحية بالمأساة كما أتمنى.. وإن كانت طرحت جانباً من زوايا الصورة أحسبها معبرة.
(فكر، وألم) اعتصرهما خطاباً لأمه الطاعنة في السن يبثها من خلاله الشكوى وربما المشورة والنصيحة.. ومن كالأم يضحي من أجل إسعاد أبنائها:
أماه.. النفس تؤرقني
ولهيب الوحدة يحرقني
وفراق حصيرك يا أمي
مأساة تنخر في الشجن
كم كان شعوري مهزوما
إذ كان الفكر يحيرني
إن كنت أعيش بلا وطن
مجهول الخطوة في الزمن
فكثيراً كنت أجالسه
وكثيراً كان يؤنبني
سيظل زماناً يؤلمني
سيظل مكاناً يسجنني
تداخل الصور بين فكره وألمه.. بين أمه وذلك الذي كان يجالسه ويضيق من تأنيبه يجعلني في حيرة لا أجزم بموحياتها.. الذي استوحيته من سياق الطرح.. إن المعاناة في الداخل.. وإن الشكوى أيضاً من الداخل..
(صلاح الدين) نعم على كل شفة.. نتذكره مع كل انكسار.. وعند كل هزيمة.. ولقد تذكره شاعرنا وهو يطعم مرارة الانكسار والهزيمة:
فوارس أمتي شجعان حرب
إذا ما لاح في الأرض التنادي
وإنك يا صلاح الدين رمز
وغيرك لم يزل رهن انقياد
فأقصانا يدنسه يهود
ويعزيهم بأقصانا التمادي
(سبعون عاماً) خريف عمر.. وقد يكون ربيع عمر لمن أحسن.. عاينه وسقاه ماء الحركة ذات البركة بعيداً عن الهموم والمشاكل..
مالي وللافتراضات وجبر الخواطر.. سبعون حولاً مساحة لا يستهان بها تقرب إلى نهاية السفر..
سبعون عاماً، والعواصف، والشجر
والموت يسبق ظلنا.. أين المفر؟
المفر يا عزيزي منه وإليه.. إنه القدر المحسوم لكل كائن حي.. وتبقى الأعمال الجليلة إذا كانت هناك أعمال تحلد ذكرى صاحبها..
يتساءل الشاعر.. ربما مع عزيزٍ غالٍ لديه:
هل يومك الموعود حان لقاؤه؟
والشمس شاهدة علينا والقمر؟
ويخاطب أمه:
أما أنا فستعرفين حكايتي
سحب يموج بها الكثير من المطر
الله ربي لست أعبد غيره
حتى أموت على فراش من مدر
يكفي هذا.. إنها نهاية كل مؤمن يعرف ربه..
بين العظة والبكاء حاجز نفسي وفاصل.. ولكن ماذا بيد كاتب يقلب الصفحات لا يملك الفقرة إذا كانت بوابة المحطة مفتوحة أمام قطار الرحلة..
الدموع يا صديقي أنبل المشاعر وأصدقها وأبلغها.. إنها تسبق الفصاحة اللفظية تعبيراً عن مكنونات النفس.. بل إن البكاء مطلب صحي نحن في حاجة إليه في زمن تحجرت فيه المشاعر.. وتفجرت داخله قنابل الجفوة والقسوة.. عيوننا تغسلها الدموع..
ودواخلنا المثقلة بالحزن تتنفس بعد أن نبكي ونجود بالدمع.. حتى ولو كان كثيفاً مخيفاً يفتقر إلى (سجلات بكاء).
بكائي.. في سجلات النكاء
حروف ترتوي حبر الشقاء
فيا بؤسي، ويا طول انتظاري
على زمن يساومني دوائي
فليت العمر ينصفني صراعا
ويبكيني إذا نطقت دمائي
وداعاً، والهوى يبكي وداعي
إلى أرض سيسعدها لقائي
انتهت الرحلة مبللةً بدموع ساخنة لا بد منها.. الحزن شهادة حب.


سعد البواردي
الرياض ص.ب 231185
الرمز11321 فاكس 20533384

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved