الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 30th January,2006 العدد : 138

الأثنين 30 ,ذو الحجة 1427

مفقود
جرى ذلك المساء..!!.
حين كنا نخترق الوادي، نمارس لعبة طالما ألفناها، كل يذهب في اتجاه للبحث عن الحجر، في ذلك متعة اللعبة، نتقسَّم إلى فريقين، كل يبحث، بلحظة ما تسامع لنا.. بل سمعنا حقاً صوتاً يعلو من جهة العروج.
حين سمعنا ذلك الصوت كلٌّ تسمَّر في مكانه، لم نسمع بعد ذلك إلا صرخة له، بحثنا عنه طوال الليل، لكننا فقدنا أثره، بتنا تلك الليلة نذرع المكان، لا جدوى، ماذا سأقول لعمتي؟
ذات مساء من البحث لاح لنا في الظلام طيفه، كان محملاً بصمت رهيب، عدتُ به إلى أمه، فرحت كثيراً وفرحت، لكن صمته المرعب غدا منغصاً لفرحتها، بعدها تناقلت القرية عودة المفقود، توافدوا ليهنئوا أمه على عودته.
منذ عودته تغيرات كبيرة طرأت على حياته، لم يعد يمارس طقوساً كنا نعتبرها مقدسة لديه، لم أجرؤ يوماً على اختراقه على رغم قرابتي منه.
(ربما عاد، لكنني أقسم أنه لم يعد، ليس هو، إنه آخر. نعم، عاد جسده، لكن أشياء كثيرة لم تعد). أقول ذلك لهم، لكنهم يهزؤون مني، يقولون: ربما عاد، لكنه لم يعد، كيف ذلك؟
كنت الوحيد الذي لا أزال أبحث عنه كل مساء، أفتش عنه هنا وهناك، حين أشعر بالتعب أذهب إليه، أجده جالساً أمام بيتهم، بالساعات أجلس إليه دون أن يحرك ساكنه، أحدثه عن طفولتنا، ذكَّرته بيوم سقط في بئر (السيدة)، كيف أني لم أستطع فعل شيء؛ لذا آثرت أن أسقط بجانبه؛ كي لا يبتعد عني، ذرعوا القرية طوال اليوم بحثاً عنا، في المساء وجدونا هناك. لكن لا جدوى، لم يُبد أي اهتمام، لم يضحك ملء فيه ككل مرة أذكر له فيها حادثة البئر. أمه تحسُّ بتغيره، تلهج بالدعاء، تقرأ ما حفظت.
ذات مساء، أخذته معي، طفنا أرجاء القرية لعله يعود، قررتُ أخيراً ودون تفكير أن أذهب به جهة العروج، حين اخترقناها خففتُ من سرعتي، تقدم عني بضع خطوات، سار قليلاً متفوهاً بكلمات لم أفهمها، قربت منه قليلاً، لكنه صمت، قليلاً تراجعت، تأخرتُ عنه بحيث أراه، أحسستُ بسرعته تزداد، أسرعتُ معه دون اللحاق به، توقف فجأة بجانب عرج لا أجد فيه إلا أنه أطول العروج، يحتمي بقامة لا شبيه لها، وهيكل ضخم ترتعد القلوب منه لأول وهلة، أدرك أن صمتاً وغرابة تسكناه، كم قيل: يقطنه شعب من الجن، لهم هيئات النمل الأبيض، تحتمي بهيكله من شعوب أخرى، يروحون مساء يلتقطون من نبات الأرض ما يتأوَّدون به، إنهم يعودون إلى حالتهم الطبيعية حال خروجهم من العرج، ينفضون من على جلودهم رائحة النمل، يلعقونها محتفظين برائحتها، حال رجوعهم يتقيؤونها، يخضبون أبدانهم بقيئهم ليعودوا نملاً فيستطيعون الدخول حينها إلى العرج، هكذا سمعنا أنهم شعب يحيا في جوف العرج، وأننا أناس نسكن بجوارهم.
سرحت كثيراً مع ذاكرتي، التفت إليه، لم يعد له أثر، خفت كثيراً، الآن أنا من سيُتَّهم: لم ذهبتَ به هناك؟ بحثتُ عنه، كأن الأرض ابتلعته، هاااااه، لربما العرج هو مَن ابتلعه، درتُ حول العرج، حاولتُ أن أجد فتحة تدنيني منه، أحسستُ أن هناك مَن يترقبني بجوف العرج، وقفتُ نفس الوقفة التي كان يقفها ماداً ذراعيَّ، أطلتُ الوقوف، تذكرتُ أنه كان يردد عبارات سمعتها دون فهم، رددتُ عباراته، أحسست بشيء يحملني وبنوبة نعاس أفقدتني التمييز، لم أشعر إلا حين ألفيتُ نفسي بجسد نملة بيضاء مقيداً بخيوط حبست حركتي، عندما أحضرت إلى سيدهم أو هكذا تخيَّلتُ تفاجأت بابن عمتي واقفاً بجانبه، جسده كجسدي لولا أن قلادة تتدلى من عنقه كغيره من النمل، أحسست بجلال قدره عند السلطان، حيث كان يدنيه منه، يجلسه بقربه، حين رأيته ناديته باسمه، عرفني، كان السلطان يريد أن يعاقبني على انتهاك حركة شعبه، لكنه سامحني، لا لشيء سوى أن ابن عمي توسَّل إليه ليعفو عني، فكّت الخيوط عن جسدي، أجلست بعيداً، بقيت صامتاً لزمن، كنت أتمنى لو أعطيت قلادة مثل التي معه، السلطان يحاور ابن عمتي كأنهم أصفياء من زمن، حين أحس ابن عمتي بتعبي هبَّ واقفاً، استأذن من السلطان وحاشيته، قام السلطان إليَّ ماسحاً بيده على جبهتي، لم أشعر بشيء إلا حين وجدت نفسي ملقًى بجانب العرج وابن عمتي بجانبي، قلت له: أين كنت؟ قال: هناك!! بعدها سرنا عائدين، أخبرني عن سرِّ تغيره عما كان، قال لي: أتذكر يوم سقطت في بئر (السيدة)؟ كانت هناك امرأة من الجن تسكن في جوف البئر، عند سقوطي تلقَّفتني بأحضانها، راحت تمسِّد شعري، كنت مرتاعاً أول الأمر، لكنني ألِفْتُها، وهي بدورها ألفتني كأنها تنتظر قدومي، شكت حالها لي، قالت لي إن أهلها طردوها لأنها أحبت جنياً من قبيلة عدوة. لما شاع خبرها آثروا طردها، اختارت البئر المهجورة ملاذاً، شعبها سكن عرجاً هناك في العروج، قالت: إنه لا يملك أحد المقدرة على رجوعها إلى أهلها سوى إنسي يسكن قريتنا، وعلامته هي سقوطه في جوف البئر، علَّمتني أشياء أقولها، قالت: إن المُنتظَر سيتعرض للخطف من شعبها يوماً.
قال كلماته وراح يكرِّر عليَّ قصة سقوطه في بئر (السيدة) ويضحك.. يضحك!!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved