الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 30th May,2005 العدد : 108

الأثنين 22 ,ربيع الثاني 1426

هزيمة بطل أم هزيمة مجتمع؟!
أمل زاهد
على عكس القناعة السائدة أن الأبطال هم مَن يحرِّك المجتمعات ويقود زمامها ويدير عجلة التغيير فيها، يقودنا المبدع (يوسف إدريس) بقلمه الميكروسكوبي من خلال إحدى روائعه في القصة القصيرة (أنا سلطان قانون الوجود) إلى أن المجتمع هو الذي يخلق البطل، وأن البطولة ليست إلا نتاجاً للعوامل الفكرية والاقتصادية والسياسية المؤثرة في تشكل المجتمع التي تلعب دون شك دوراً بارزاً في رسم ملامح البطولة وفي تأطير صورتها.
في هذه القصة المستوحاة من واقعة حقيقية حدثت لبطل السيرك المصري (محمد الحلو) الذي نهشه أسد ربَّاه ودرَّبه، وألجمه بنظراته وأخضعه بهيمنتها عليه لسنين طويلة، ليتلاشى يوماً ذلك الخيط الرفيع الفاصل بين القدرة على السيطرة والهيمنة على الحيوان وبين الخوف الساكن والنائم في قلب الإنسان، يلتقط الأسد ذلك الخوف بفطرته، وتتسرب إليه تلك المشاعر المتناقضة التي يشعر بها صاحبه، ويكتشف في لحظة مجنونة تتعرَّى فيها الحقائق، ويتمزَّق قناع القوة أمام ناظريه، أن مدربه يهابه ويخشاه، فيهجم عليه وينهشه استجابةً لمنطق الغاب المجدول في طبيعة تكوينه، نداء الغاب الذي لا يعترف بغير القوة منهجاً ودستوراً، ولا تخرج فيه العلاقات عن إطار الافتراس، فإذا انهارت قلعة القوة المتينة التكوين عند أحد الأطراف استيقظ الاستشراس عند الطرف المقابل، وكأنها معادلة دقيقة، فإذا نقصت القوة هناك ارتفع معدل القوة هنا، وقد حدث ذلك أمام الجمهور الذي يجتذبه السيرك ليشاهد لمعات من البطولة هنا أو شذرات من المتعة والإثارة هناك.
البطولة دون شكٍّ هي خروج على المألوف، وكسر للصور التقليدية التي يمتلك معظم البشر زمام تحقيقها على أرض الواقع، وكلما صعب العمل الذي نشاهده وابتعد عن مقاييس البشر العادية استطاع أن ينتزع إعجاب الناس، وأن يرسم الدهشة في عيونهم، والانبهار على تقاسيمهم وملامحهم. والبطل دون شك يحقِّق ذاته من خلال هذه البطولة، ومن خلال انتزاعه للحظات الدهشة التي يراها تبرق في عيون مَن يشاهده ويرقب إنجازه كما يصوِّر لنا يوسف إدريس بقلمه الدقيق الوصف والقادر بمهارة على قراءة المونولوج الداخلي للنفس البشرية.
ولكن ماذا لو تحوَّلت البطولة إلى أكْل للعيش ووسيلة للتسبُّب؟ هل من الممكن أن تحتفظ بقدرتها على الإبهار؟ وهل من الممكن أن تظل تحدياً يسكن البطل حتى يحققه على أرض الواقع؟ وهل هناك مناخ معيَّن وأرض مهيَّأة لإلقاء بذور البطولة فيها، بينما تجدب بيئات أخرى وتعقم الأرحام فيها عن إنجاب البطولات؟
وكعادته في التقاط التفاصيل الصغيرة ثم وضعها تحت مجهر العرض وتحليل دقائقها، يصف لنا المبدع يوسف إدريس جمهور السيرك القادم إلى مكان يحاول فيه أن ينفصل عن واقعه، وأن يخرج لسويعات من أسْر حياته الرتيبة الفقيرة من الإبهار والانبهار. ذلك الجمهور المثقل بهموم (أكْل العيش)، المُثخن بآلامه وإحباطاته في أوائل السبعينيات من القرن المنصرم، الجمهور الذي تعرَّت أمامه كثير من الأمور من ثوب أحلامها، وتمزَّقت كل الأقنعة لتبدو الحقائق جارحة حارقة كأشعة يوم صيفي مشمس بعد هزيمة 67. ذلك الجمهور الذي ينوء بوجبة فطور رمضانية دسمة، الرجال بكروشهم المتدلية أمامهم، والنساء وقد تكسدت أجسادهن وانحشرت في ثياب باهتة التفاصيل تنأى بعيداً عن أي إحساس بالذائقة الجمالية، وذلك الجو العام من الملل والرتابة الذي يلقي بظلاله على مسرح اعتاد أن يرتج بتصفيق المشاهدين، ويهتز من زفرات أنفاسهم التي تتنفس الصعداء بعد زوال الخطر عن أبطال تلك اللعبات التي تبهرهم وتخطف ألبابهم.
ثم يُسهب في وصف طاقم السيرك نفسه ببدلاته المهترئة المنزوعة الأزارير، وبطلاته السمينات بملابسهن المفتقة وألوانها الباهتة من تأثير العتاقة والقدم، والتقنيات والوسائل التي أكل الزمن عليها وشرب ولم تعد تصلح للاستخدام العادي، ناهيك عن المغامرة بممارسة ألعاب خطرة فوقها أو بواسطتها. وهنا تندفع إلى تساؤل يفرض نفسه عليك قائلاً: هل من الممكن أن يُولد من رحم هذه المعطيات البائسة بطل يخلب لب جمهور محبط يائس كذلك الجمهور؟! جمهور مكسور النفس، محطم الأحلام، تتناهشه نوائب الحياة ومصاعبها. جمهور قرَّر مع سبق الإصرار والترصد أن يقاوم أية محاولة غير صادقة لرسم معالم بطولة لا تبهره تفاصيلها، ولا تشدُّه حيثياتها؛ فقد شبع من الأكاذيب، وأُتخم من ابتلاع الفقاقيع الفارغة.
فهل الجمهور هو الذي يصنع بطله الذاتي الذي تُرسم ملامحه طبقاً لمواصفاته، وتُحدَّد قسماته وفقاً لمقاييسه؟ وهل البطل أو رمز البطولة هو نتاج لنسيج اجتماعي معين، وظروف سياسية محددة، وأحوال اقتصادية مخصصة؟ وهل البطل هو انعكاس لصورة المتلقِّي، ومقاربة لواقع تلك الصورة في محاولة لكسر أُطرها النمطية، فينطلق مجسداً لأحلامها، ومصوراً لأمانيها، ومحققاً لأخيلتها؟ وهل من الممكن أن تختل موازين نظرتنا إلى البطولة، وتهتز مقاييسنا طبقاً لظروف سياسية واجتماعية واقتصادية معينة تقلب أعالي الأمور سافلها، فتتسلق تلك الظروف بمهارة وخفة على حقيقة معالم البطولة فتخفيها، وعلى قيمها الأصيلة فتحجبها؟ وهل تموت ثمرة البطولة في مهدها عندما تتساوى الأشياء مع أضدادها، وتتعادل مع نقائضها، وتتلاشى الفوارق ما بين الخير والشر، الحق والباطل، الجمال والقبح؟
يقول إدريس: (إن البطل لا يُولد وحدَهُ.. البطل يُخلق.. ولا بدَّ كي يُوجد ويعيش أن يترعرع في ظل إحساس عام بضرورة البطولة، بروعة البطولة، بتفرُّد البطل. ولا يمكن لفكرة البطولة أن تترعرع في جو عام كهذا وحدَها. البطولة قيمة، ولا بدَّ أن تُوجد وسط محصول وافر من القيم.. لا مجد للبطولة بلا مجد للكرامة، بلا مجد للنبوغ، بلا مجد للشرف.. بلا مجد للعمل الصالح. وأيضاً لا توجد البطولة بلا جو عام تُلعن فيه اللابطولة، تجتث كالحشائش الضارة منه، وتجتث معها حقائق سامة أخرى؛ كالجبن، كالتفاهة، كالنفاق، كالكذب).
فهل نجد في هذه الفقرة إجابة عن السؤال الأكثر إلحاحاً: لماذا أجدب زماننا، وعقمت أرحام أمهاتنا عن إنجاب الأبطال؟!


amal_zahid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved