الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 30th May,2005 العدد : 108

الأثنين 22 ,ربيع الثاني 1426

ذاكرة في المزاد
عبد العزيز حمد الجطيلي *
لحظة القرار
قرار السفر الجميل إلى مدينة أجد فيها ذاتي..
رتَّبتُ حقيبة السفر.. لملمتُ أوراقي المبعثرة..
حيث الكلمات تئنُّ حنيناً وألماً، وترتسم فيها كل دروب للضياع
كل رسائلها الرائعة حملتُها معي.. قصاصات الشعر التي تعجبها حملتها معي..
حتى المنديل الذي نسجتْه لي بأناملها وزيَّنته بالورد والزهور بخيوط من حرير
وسقيته أنا بدمعي وضعته بين ملابسي..
أخذتُ معي الأغاني التي كانت تطربنا وتشجينا.. كل الأشياء الجميلة التي كانت في الزمن
الجميل ضمن أدق التفاصيل بيننا وضعتها بين ملابسي..
أحكمتُ قفل حقيبة السفر..
وفي إغفاءة عينيَّ أبصرتُ كل المشاهد والحكايات التي كانت بيننا ولنا!
حقيبة السفر.. كنز الذكريات.. إنها زاد العمر في رحلة العمر
لبستُ الثوب الجديد.. و(الغترة) البيضاء..
وأمطرت السحابة الزجاجية يديَّ ووجهي بالمطر العطري الجميل
وقفتُ أمام المرآة مبتسماً أتفحص عافية الفرح في عينيَّ اللتين تكاد أن تدمع وتكاد ألاَّ تغفل..
عيون استعبدها الحزن.. واستبدَّت بها الكبرياء.
وضعتُ الساعة في معصمي.. تأكدتُ من عقارب الساعة وأجزائها.. المسافات والنبض..
إنها هدية غزال ما غاب في لحظة شاردة عن حياتي..
أنا سعيد جداً بهذا السفر.. لأن كل سفر عرفته في حياتي تجرَّعتُ فيه كأس الفراق..
وأحلم بأن يكون هذا السفر ميلاد فرحة لقائي بذاتي!!
غادرتُ غرفتي الصغيرة.. عالمي الكبير!!
إنه السفر الخاص، ولكن..
ما أصعب أن تسافر خائفاً وأحلامك معك!!
ما أصعب أن تسافر متألماً وآمالك معك!!
ما أصعب أن تسافر بكل شوقك وحنينك وألفتك المسكونة باليأس معك!!
لكنه القرار.. السفر الخاص إلى أين..؟
إلى ذاكرة حبيبتي حيث ذاتي، أنا مع ذاتي هي!!
* * *
وصلتُ إلى المدينة.. ذاكرة حبيبتي
ذهبتُ إلى النخلة التي كنا نتفيَّأ ظلَّها
أردتُ أن أقرأ في جذع النخلة حرفي وحرفها.. قلبي وقلبها!
فإذا بالحروف مُسحت.. والنقوش تشوَّهت!
تألمتُ كثيراً.. وتساءلت: كيف تُسرق صفحة من كتاب؟!!
أين حرفي وحرفها.. وأين قلبي وقلبها؟!!
بالحروف الضائعة يصبح قاموسنا ومعجم لغتنا معاً خالياً..
حتى أقصوصة حبِّنا تبدأ من نهايتها!!
ويصبح فصل ربيع المعاني العميقة مجدباً
وحين تنضب الينابيع.. ويفيض بحر الظما في أعماقنا!!
آه يا نخلة أيامنا!!
هنا تمرة تقاسمناها معاً... هنا توائم الحلم أودعنا هامته الحسناء جذعك..
وهنا ابتسمنا لرقصة ضفائرك الخضراء مع النسائم الحانية!!
أين التمرة والحلم.. وأين لحظة الصمت العذب التي كنا فيها نقول..
وأحياناً نقول ونبتسم معاً؟!
* * *
وصلتُ إلى المدينة.. إلى ذاكرة حبيبتي!!
ذهبتُ إلى كرسي الرخام الأبيض.. في الحديقة الخضراء..
الذي كنَّا نمتطيه كل مساء لنمارس فتوحات مدن الأحلام والأماني..
ونتخيل الغد وقد تلون بالإشراق..
ونتخيل الغد وقد أصبح الميناء الكبير لكل سفن أحلام أيامنا راسية فيه!!
وعندما كدتُ أن أصل إلى كرسي الرخام توقفتُ مفجوعاً لما أراه..
فإذا الكرسي خالٍ مكسور وأشلاؤه قد تناثرت!!!
عُدتُ مُحبَطاً إلى الوراء حائراً..
وتأملتُ حوض الزهور والنعناع في الناحية الأخرى..
وإذا بالنعناع والزهور التي كنا نشمُّها دون أن نقطفها قد ذبلت!!
كيف أصبح كرسي لقائنا خالياً ومحطماً؟!
كيف تعطلت رنة الزهور والنعناع عن شذاها؟!
أين حبيبتي أسألها..؟
مَن ألغى حروفنا ومسح نقوشنا.. مَن حطَّم الكرسي الذي كان يجمعنا؟!!
آهٍ حبيبتي.. مَن حبس الماء عن أكباد زهورنا؟!
* * *
جثم الليل في مجثمه
وأنا أتسكَّع في الطرقات متعباً
والريح الباردة تفترس وجهي العاري وعيوني الزجاجية..
وحفيف الريح يهزأ بضجيج صمتي..
أمسك بيدي الباردة حقيبة السفر؛ حيث أشيائي تكاد تفقد دفئها..
وصلتُ إلى الركن الصغير الذي كنا نختبئ فيه من العواصف الشتوية الممطرة..
نظرت إلى الركن الصغير الذي كان مساحة النهار لنا في كل ليل..
وإذا به خالٍ قد تصدَّع سقفه..
وأصبح الركن موحشاً وأشدَّ شتاءً من كل شتاء!!
أين حبيبتي أسألها.. مَن حطَّم عرين دفئنا.. مَن؟!
استمرت فجيعتي، واستمر مطر الليل عتمة وصقيعاً!!!
* * *
أنا هنا في ليل ذاكرة امرأة...
واستمر الضياع والبحث عن ذاتي وذاتها..
في أقصوصة المدينة كل الوجوه الكثيرة التي رأيتها غريبة لا أعرفها
تخيفني كثيراً لأنها لا تشبهني ولا تشبه وجه حبيبتي..
سرتُ بين المنازل خائفاً متعباً وفجيعاً
كل المنازل غرقتْ في بحر الظل والشتاء
كل الفوانيس مطفأة..
كل الشموع مطفأة..
سرتُ في العتمة وأنا لا أكاد أبكي..
أخاف أن يزيد أنيني وبكائي ضجيج صمت أشباح الطريق حولي..
حتى رأيتُ من بعيد نافذة مضاءة.. ابتسمتُ باكياً وأسرعت الخطوة نحوها
حتى وصلتُ... ناديتُ من تحت النافذة!!
أين ذاتي.. وأين حبيبتي.. وأين أنا؟
أطلَّت امرأة من النافذة.. هي حبيبتي أو تشبهها وقد تزيَّنت بالنعاس
قالت: مَن هناك؟
قلتُ: أنا... أنا الإنسان الذي عرفتِه وتقاسم معكِ عذوبة الرغيف المالح..
وقطرة الماء.. أما تذكرين ليلنا الذي تولَّدت فيه نهارات أحلامنا؟!
أم أن ليلك أصبح مجرد الفاصل بين النهار والنهار؟!
أنا جئتكِ متعباً.. خائفاً.. يكاد البرد يقتلني!!!
تعالي سيدتي إليَّ وهات معك شمعة أريد أن أريك حقيبة السفر...
بعض أشيائنا الصغيرة التي تعلَّمتُ منك أن أعشقها..
تعالي فتِّشي حقيبة سفري... حروفنا.. وبطاقات العيد.. وبعض من عتابنا..
هاتي الشمعة سيدتي لتقرئي حقي بالوفاء والدفء والنور والوصول!!!
قالت: زائر الليل.. أنا لم أعد أعرفك!!!
سيدي.. ارحل بعيداً عن هنا من ذاكرتي..
فقد سُرقت مني ومنك حروف الهجاء التي أردتها أن تبقيني معك!!!
قلتُ لها: سيدتي كيف يرحل إنسان من ذاته؟! كيف يُغادر ميناء العمر؟!
قالت: أجل، بكل مرارة أقول لك: ارحل من مدينة بلا قلب..
فربما تكون ذاكرتك أجمل مدن الدنيا حتى وإن أبكتك..
ارحل وأنت بكامل أناقة جرحك، فربما تجد امرأةً أخرى محظوظة..
هي الرفيق للحبيب الذي كان.. سيدي ارحل بعيداً من هنا...
وحاول أن تنساني يا أعز الناس.. فقد نسيتُكَ أنا ونسيتُ نفسي!!!


قطرة الوداع
لأجلكِ أنتِ.. كتبتُ أنا قصيدة الرحيل..
أنتِ تغنينها في نهار نسيانك.. وأنا يئنُّ بها قلبي لوعةً وحنيناً في ليل الذكريات.
* عنيزة
ayamcan@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved