الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 30th June,2003 العدد : 18

الأثنين 30 ,ربيع الآخر 1424

الحزن ألهمه.. وألهبه .. !
د. عبدالله مناع *

لقد عادت بي الرحلة مع النسر عبر هذا الكتاب الى منابع أحزانه الأولى وسنوات كآبته.. الى تلك البحيرات الصغيرة المتناثرة من الحزن والأسى التي تجمعت لتشكل نهر حزنه العميق.. المتدفق والمتصل.. الذي كنا وما نزال نقرأه في شعره ونراه في قسماته ونحسه في صمته وبوحه دون أن نعرف له سبباً.
لقد قدم لنا هذا الكتاب التفسير الموضوعي لتلك الاحزان وهو يكشف عن أغوارها البعيدة.. وأعماقها السحيقة.. فهذا "الطفل".. الذي تيتم وهو في شهره السابع، وتخلت عنه مرضعته قبل أن يتم فصاله، وماتت مربيته البديلة قبل ان يتم عامه السابع، ثم لحقت بها أخته من الرضاع قبل ان يتم عامه التاسع، وعانى الوحدة والوحشة بين ثلاث أخوات كن في سن والدته، ورأى أباه وهو يعاني قلته ويكابد همَّ تربيته ويغترب من أجله ومن أجل أسرته.. ثم فقده وقد كان محطة أمنه وأمانه وملجأه الوحيد بعد الله لحظة تخرجه وخروجه من المدرسة الى الحياة وهو في السادسة عشرة من عمره.. هو هذا "الشاعر" الذي بكى وما زال يبكي تلك الأيام، هو هذا الشاعر الذي نقرأ موج أحزانه بين اليوم واليوم.. والصحيفة والأخرى في مطولات ورباعيات ومقطوعات، هو هذا الشاعر الذي نراه بيننا اليوم بقوامه الممشوق رغم عصاه التي يتوكأ عليها.. وببقايا وسامة قسماته.. وبهذا الحزن الذي يكسوها ويطل فاضحا واضحا من عينيه، هو هذا الشاعر الذي أحس بعد كل تلك التراكمات من الفواجع والأحزان ب"أنه منكود.. محارب ممن لا قبل له بحربه، فتشاءم وانعقدت بنفسه عقد كلفته في مستأنف أيامه ثمنا باهظا.. من النكد والمرارة والخيبة".
لقد حفزه "الحزن" على الدرس والقراءة المبكرة.. الهمه والهبه.. واطلق بوحه، وانطق أشجانه وآهاته.. وكان القوس والريشة على أوتار ابداعه وغنائه، لكن مضي الزمن وتعاقبه لم يفعل كثيرا في ذلك الحزن، فلم يبدده ولم يطوه.. بل ظل كمده وكلمه نارا تحت رماد أيامه لم تطفئها امتيازات العيش الرغد التي حققها، وظلت شموس فرحه غير قادرة على أن تجفف تلك البحيرات الاستوائية من الحزن.
ومع سنوات مراهقته.. كان يقف إلى جوار حزنه: شكه وريبته وحيرة عقله بين "الهداية" و"الغواية" وبحث قلبه عن الحب وتقلبه بين فضيلة تتسامى اليها نفسه و"رذيلة" يشده اليها شبابه..
لقد مر أستاذنا "الفقي" على هذه المرحلة مروراً سريعا. يسبق حياؤه فيها.. خجله، وحمرة وجهه.. تعثر خطوه.. فأجملها ولم يفصلها..
لقد شكلت تلك السنون بما كان فيها ومنها من حرقة الجوى وفرحة بالهوى.. رافداً من روافد ابداعه ومخزونا من حلو التجارب ومرها.. ظل يمتح منه سنين طويلة فيما بعد..
ثم توقفت بي "سنواته الأولى" عند ذلك اليوم الذي صدرت فيه صحيفة صوت الحجاز لتعبر "عن أماني الشعب وتترجم اتجاهاته ورغباته وأهدافه".. ف"كان ميلادها ايذانا بتطور عميق شامل للبلد الذي كان منعزلا خاملا.. يتعثر في حاضر مظلم لا يكاد ينتمي الى ماضيه اللامع الجميل".. إذ من فوق منبرها "استمع الناس الى صوت مهبط الوحي يجهر حينا ويخافت أحيانا، انه صوت طال احتباسه".. ففي ذلك اليوم بلغ "الفقي" الواحدة والعشرين من عمره مدرسا.. محبوبا من تلامذته وزملائه، وقلما شابا واعداً.. شجي الكلمة شاعراً.. وجريئها.. ناثراً.. يتلقى النصح من "مديره" ب"التوقف عن الكتابة لأنها تتنافى مع سمت العلم والعلماء".. لكنه لم يستمع الى تلك "النصائح" ولم يتوقف عن الكتابة.. لتأخذه فيما بعد أزمة "الدويش" إلى رئاسة تحرير تلك الصحيفة.. ليكون ثاني رؤساء تحريرها وأصغرهم سنا.. نسبة الى من سبقه ولحقه.. بل وربما كان أصغر رئيس تحرير في عالمنا العربي.. في ذلك الوقت من مطالع الخمسينيات الهجرية والثلاثينيات الميلادية.. لقد كانت تلك نقلة نوعية في حياته.. أخرجته من الانطواء والعزلة والانكفاء على الذات.. الى عالم الصحافة والاضواء الصاخب بالاحداث والأحاديث والناس باختلاف مقاماتهم ومشاربهم وعقولهم.. الى عالم لم يكن يعرفه.. ودنيا كان يجهلها. لتتأسس أهميته التي أخذت تتنامى بعد ذلك سنة بن سنة.. وعقداً بعد عقد..
ثم كن طبيعيا ان تتوقف بي صحبتي لاستاذنا "الفقي" في رحلة العودة معه ل"سنواته الأولى".. عند تلك المعالم.. المثيرة والعجيبة لحياة مضت وأيام انطوت قبل أكثر من سبعين عاما.. لأرى وأتأمل بعيني عقلي وقلبي مشاهد وملامح من حياة مكة على وجه الخصوص.. والحجاز على وجه العموم: الدعة عيشا، والسكينة.. نعمة حول البيت وفي المطاف وعند المقام، والآمال والأحلام.. جياشة تزدحم بها الصدور، لأقف في النهاية على رابية من روابي "الحجون" فأرى أستاذنا "الفقي" وهو يتأرجح ويتمرجح خلف والده وقد امتطيا ظهر "حمار" في طريق العودة من أرض "الغربة"(!!) من "جدة" إلى "مكة" وقلبه يمتلئ بشوق العائد إلى "وطنه"! لقد كان الذهاب الى "جدة" "سفراً وهجرة من كل ما كان يألفه ويحبه.. إلى مالا يألفه ويحبه" كما قال.. فكانت الايام فيها "تطلعا".. والليالي حنينا متصلا للحظة عودته.. فلما أبلغه والده ذات يوم بنبأ موافقته على زيارة البيت والأهل و"مربيته" بعد الحاح متصل من جانبه.. لم ينم فرحا وسعادة وترقبا.. تماما كتلك الليلة التي أمضاها ساهراً خلف والده على ظهر ذلك "الحمار" أسرع وسائل المواصلات وقتها دون ان يغمض له فيها جفن إلا بعد ان صافحت أذناه أصوات المؤذنين وهي تتابع من منائر "الحرم" مؤذنة بفجر يوم جديد.. ومقدم صباح جديد وسعيد عليه.
ما أجمل ما فعلته بنا السنون.. فقد قربت المسافات.. وأذابت الفواصل.. وطوت مشاعر الغربة والاغتراب التي تثير ضحكنا وسخريتنا هذه الايام.. وأصبح "الذهاب" الى مكة والعودة منها الى جدة "مشواراً" لا سفراً يقطعه الغادون والرائحون بينهما ممن يعملون في مكة.. ويقيمون في جدة أو العكس في دقائق.
*جدة
من تقديم كتاب "السنوات الأولى، ترجمة حياة محمد حسن فقي" تحت عنوان (عن الكتاب لا عن الكاتب..)
سلسلة كتب الاثنينية، الناشر، عبدالمقصود خوجة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved