الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 30th June,2003 العدد : 18

الأثنين 30 ,ربيع الآخر 1424

مقهىولا كالبرازيل 2/2
عبد السلام العجيلي

في الجزء الأول من هذا المقال تحدثت عن مقهى البرازيل في دمشق، وذكرت واحدة من أهم خصائص زبائنه وهي ادمانهم السخرية والانتقاد الضاحك على ما يبدو لهم مستحقاً لذلك وعلى من يبدو مستحقاً لذلك، وهنا أضرب أمثلة على ما أشرت إليه في هذا المجال.
كان للسخرية رجالها بين رواد المقهى، ولا يسلم من لذع ألسنتهم حتى هؤلاء الرواد أنفسهم، كان معروفاً أن جلوس احدى موائد المقهى الذين يتبارون في انتقاد ضاحك لاحدى الشخصيات النافذة أو احدى المؤسسات المهمة، كثيراً ما يحولون انتقادهم إلى زميل مشارك لهم حال مغادرته الجلسة وخروجه من المقهى، حدث في احدى المرات أن الدكتور نظيم الموصلي رحمه الله وكان استاداً جامعياً مرموقاً ومعروفاً بميوله اليسارية، كان يتهيأ إلى رحلة إلى أوروبا.. في آخر جلسة له في المقهى قبل السفر قال لصديقه الدكتور المالح أمام رفاق الجلسة: أعرف أن هؤلاء سيبدءون منذ الغد باغتيابي وتعداد مثالبي.. لقد وكلتك في الدفاع عني أمام اتهاماتهم.. أرجوك لا تخيب ظني!
وحقاً لقد أخذ الرفاق بمهاجمة الدكتور الموصلي واغتيابه على طاولتهم في اليوم التالي لسفره، تحدثوا عن إفراطه في التأنيق رغم تقدمه في السن، وعن التناقض بين أفكاره اليسارية وسلوكة البرجوازي، وعددوا المآخذ التي ينسبها إليه طلابه في الجامعة، وأشياء أخرى غير هذه وتلك، وراح الدكتور المالح يدافع عن صديقه الغائب بحماسة وبأفصح لسان، فعل هو هذا في اليوم الأول وفي الأيام التالية عندما كرر جلوس المقهى انتقاداتهم على صديقهم، وكان لا بد أن تخف هذه الانتقادات في عددها وفي جدتها يوماً بعد يوم، إلى أن نسيها الرفاق وتحولت الغيبة إلى مستهدفين جدد غير الدكتور الموصلي، وحينما وجد الدكتور المالح أن مهمته الدفاعية عن صديقه لم يعد لها محل، صاح بأصحابه: مالكم سكتم عن اغتياب أخينا نظيم؟ أرجوكم، هاجموا الرجل لأؤدي واجبي في الدفاع عنه!
ومن أبرز ساخري المقهى، وأقول أن أغلبيتهم العظمى انتقلت إلى العالم الآخر قبل اليوم، المرحوم الأستاذ سعيد الجزائري، كان سعيد صحفياً لامعاً وأديباً متمكناً، دائم الدعوة لنا إلى الكتابة والسعي إلى نشر ما نكتبه في الصحف التي يراسلها في دمشق وفي بيروت، فكنا نطلق عليه لقب دينمو الأدب، وكان في ما يكتبه لا يخرج عن الجد، أما في أحاديثه، ومعاشرته فكان بالغ السخرية ولاذعها، اطلعته مرة ونحن نجلس في مقهانا على صورة للشاعر أحمد الصافي النجفي مرسومة بريشة فروخ في عدد مجلة الأديب الجديد. كان الصافي النجفي مشهوراً بشاعريته الفذة التي تثير الاعجاب وبصفة أخرى تنفر منه المعارف والأصحاب، وهذه الأخيرة هي إهماله هندامه وابتعاده عن النظافة في جسمه وملابسه، قلت لسعيد: انظر هذا الرسم لفروخ ما أجمله، قال: صورة من هذه؟ قلت: أما ترى؟ إنها صورة الصافي النجفي، فهز صاحبي رأسه وقال: لا أراها تشبه الصافي بشيء، فأنا لا أرى فيها قملة واحدة!
وكان سعيد معجباً بالشاعر الكبير خليل مردم بك كل الإعجاب، يطربه في كل مناسبة ويدافع عنه كل ما لزم الأمر، إلا أن هذا لم يكن يعفي الشاعر الكبير من لذعات لسان سعيد وسخريته، فهو يأخذ عليه ما يشاع عن حرصه الشديد مع أنه في غاية الثراء وأنه، على ما يقول الجزائري، يملك نصف حوانيت سوق الحميدية في دمشق، ولما كان عدنان مردم بك، ابن خليل، شاعراً مثل أبيه، ينشر في الدوريات قصائد متعددة، فقد وجد سعيد الطريق إلى تهكمه على الأب في مقارنته بين شعر الاثنين، كان يقول لنا في جلسات البرازيل: هل تعرفون حكاية القصائد التي ينشرها عدنان بتوقيعه؟! أنا أعلمكم، ينادي الأب، الشاعر الكبير، ابنه ويقول له "يا بني، نظمت كم بيت شعر فلم تعجبني، أحسن من أن القيها في الزبالة خذها أنت وضع تحتها توقيعك" وبهذه التشنيعة يضرب سعيد عدة عصافير بحجر واحد، فهو يسخر من حرص الأب حتى على الكلمات التي لا قيمة لها، فلا يتنازل عنها إلا لابنه، كما يسخر من شاعرية الابن التي تقوم على نفايات ما ينظمه أبوه، هذا مع العلم أن عدنان مردم بك أصبح شاعراً متفوقاً، وأنه أصدر غير دواوينه عدداً غير قليل من المسرحيات الشعرية.
وكان صديقنا الأستاذ صبحي خَنَشَتْ "بفتح الخاء والنون والشين وتسكين التاء" من المترددين على مقهى البرازيل قبل أن يلتحق بالسلك الدبلوماسي للمملكة العربية السعودية ويصبح سفيراً لها في عواصم الغرب، كنا نأخذ عليه غرابة اسمه بصيغته غير المألوفة، وجاءنا سعيد في ذات يوم وقال: عندي لكم نبأ سار، أخونا صبحي خنشت أقام دعوى قضائية على ضابط الأحوال المدنية، في مسقط رأسه يبرود، فغيَّر اسمه العائلي.
سألناه: بماذا غيّره؟ قال: أصبح اسمه "خَنَشْتُ" بتسكين الشين وضم التاء!
على أن هذه النكتة الدائرة حول التسمية تظل أهون من مشابهتها التي سخر بها من أحد رواد مقهانا حين أُعير هذا للتدريس في احدى الجامعات الصينية فترة قصيرة، عاد هذا الأستاذ الجامعي من الصين، ويبدو أن بعض تصرفاته أغاظت أخانا سعيداً، فأشاع بيننا أن صاحبنا قد غيّر اسمه منذ رحلته إلى الشرق الأقصى واتخذ له اسماً صينياً، وعندما سألناه عن ذلك الاسم قال: أصبح اسمه "شي تفو"! ومن سوء حظ ذلك الصاحب أن هذا الاسم الصيني الوقع، والذي يتألف من مقطعين يوحيان بالتقزز، وجد قبولاً عند معارفه فظل يطلق عليه زمناً قبل أن يمحوه النسيان من ذاكرة الرفاق.
وغير سعيد الجزائري كان الساخرون كثيرين بين رواد مقهى البرازيل، يتميز كل منهم بلونه الخاص في السخرية والتنكيت، أعد منهم الدكتور صلاح المحايري الذي كان أميناً عاماً لرئاسة الوزراء، وهو مثقف كبير اختصاصه الفلسفة ويقرأ بلغات متعددة ولكن باعه في السخرية طويل، وهو يمارسها بإطلاق التشنيعات الماكرة القائمة على الملاحظة الدقيقة ورصد التناقضات بين الأقوال والأفعال، ويصوغها أحياناً في أرجاز شعرية تنتهي كلها بكلمة يا حبيبي، مثل هذه:
عندما حان الفراق
لجّ في فيّ البصاق
آه لوزرت العراق
يا حبيبي..
وهو يعني بهذا جليساً كان رواد البرازيل يجدونه جافياً وثقيل الظل، وذلك في زمن كان السحل والشنق مستشريين في العراق في انقلاباته العسكرية المتلاحقة.
ويمكنني أن أعد من أولئك الساخرين اثنين يتميزان بالظرف والمرح، هما المحامي زهير الشلق والمهندس الزراعي عبدالرزاق كرد علي، كان هؤلاء الظريفان وراء حكاية دفتر مشهور اشترك رواد المقهى في تحرير محتوياته، تلك المحتويات كانت تدور حول كتاب "التاريخ المعاصر" للمربي القديم المتقاعد الدكتور ع. ح. وأنا أسجل في ما يلي بعض جوانب حكاية ذلك الدفتر.
في ذات يوم أقبل هذان الصديقان في جلستنا الصباحية عليّ وقالا لي: عليك مائتا ليرة، يجب أن تدفعها لنا الآن! كان ذلك في أواخر الخمسينيات أو أول الستينيات الفائتة، وكانت لليرة السورية قيمتها الكبيرة آنذاك.
سألتهما: ولماذا؟ قالا ثمن نسخة من الطبعة الجديدة لكتاب الدكتور ع. القديم، التاريخ المعاصر، لم أملك إلا أن أضحك وأنا أتوقع أن هناك ما يضحك وراء هذا الطلب الغريب، قلت: هذا كتاب مدرسي قديم قرأته وأنا طالب بكالوريا منذ اثني عشرة عاماً، ثم إن مائتي ليرة ثمن كبير لأي كتاب، ولو كان "تاريخ المعاصر" كما كنا نسميه آنذاك.. ما هي حكايتكما بالضبط؟ قالا: إن أستاذنا الدكتور ع. اشترى الشقة التي يسكنها في أحد أحياء دمشق، وقد نقصه مبلغ كبير من ثمنها، أشفقنا عليه، فطلبنا منه أن يعطينا النسخ الكاسدة من كتابه القديم ونحن نبيعها للأصدقاء، والمعارف ونأتي له بذلك المبلغ، أنت تعرف الدكتور ع. وتعترف بحقه علينا بلا شك.
وحقاً كنت أعرف ذلك الأستاذ الكريم والقديم، كان شخصية متميزة في شكله وفي مشيته وفي طريقة كلامه التي تثير ضحك سامعيه لما يخالطها من شخير ونخير، داعية إياهم إلى الابتعاد عن مقعده للنجاة من تطاير بصاقه عليهم، ومن أراد إلماماً بشخصية الدكتور ع. ح. فإنه يجد وصفاً وافياً لها في روايتي "قلوب على الأسلاك" التي جاء ذكرها في الجزء الأول من هذا المقال، فقد كانت احدى الشخصيات المرسومة جيداً في كل أبعادها في روايتي تلك، ومهما يكن فإن المشروع الذي تبناه الصديقان زهير وعبدالرزاق مشروع إنساني يحمدان عليه ولا تنقص من قيمته طريقتهما الغريبة في تنفيذه، قالا: عليك مائتا ليرة.. قبلك دفع شكري بك مائتي ليرة ودفع محمد الميداني المبلغ نفسه، عدت إلى الضحك وأنا أقول: شكري بك، وهو شكري القوتلي، رئيس جمهورية سابق، ومحمد الميداني مقاول ورجل أعمال كبير.. أما أنا! وأضفت قائلاً: لكما مني خمسون ليرة، وأرجو أن لا تندما على ما أفعله بعدها، وناديت نادل المقهى وقلت له: يا نذير، هذا ربع ليرة اشتر لنا به دفتراً من المكتبة المجاورة.
ومن هنا بدأت حكاية الدفتر الذي أتحدث عنه، جاء به نذير فكتبت على وجه الغلاف في حضور الصديقين: ما قاله رجال الأدب والفكر والسياسة في سفر المؤلف العظيم الأستاذ الدكتور ع. ح. "تاريخ المعاصر"! وأدرت الدفتر على الحاضرين في المقهى في ذلك الصباح ليسجل كل منهم كلمة فيها تعبر عن رأيه في الكتاب، كان أول المسجلين عبدالرزاق كرد علي نفسه، فكتب الكلمات الآتية: "هذا كتاب عظيم، واقترح أن يترجم إلى العربية"! وتتالت تسجيلات الحضور بكلمات ضاحكة وأخرى ظاهرها الجد وباطنها السخرية، في ذلك اليوم وفي الأيام التي تلته، من زبائن المقهى وأصدقائهم ومعارفهم، كان بعض تلك الكلمات موقعة بأسماء صريحة وبعضها بأسماء مستعارة، وهذه الأخيرة كانت تفيض بالتشنيع على صاحب الكتاب وهجوه والطعن عليه بالشعر والنثر.
وكنت، بالطبع، من أول المعلقين على الكتاب، ما كتبته موقّعاً باسمي الصريح كان مديحاً للكتاب وصاحبه، أما الذي وقّعته بأسماء وهمية فكان شيئاً غير ذلك، قلت مثلاً بلساني، وكانت الصحف والإذاعات تتحدث في تلك الأيام عن غزو الفضاء والقمر الصناعي الذي حمل الكلبة لا يكا ودار بها حول الأرض: هذا الكتاب يستحق أن يرسل في احدى السفن الفضائية إلى سكان الأفلاك العليا ليطلعوا على مبلغ تقدمنا العلمي في هذه الأيام، وتحت هذه الكلمات كتبت، وبتوقيع مستعار، العبارات التالية: ماذا فعل بكم سكان الأفلاك العليا حتى تتحفوهم بهذا السم الزعاف؟ إن الكلبة لا يكا التي ماتت في سفينتها الفضائية قد لقيت حتفها من جراء أكلها ورقة من كتابكم القيم هذا، ويقال إنها الورقة التي تحمل اسم المؤلف!
هذا ما كتبته نثراً، أما شعراً فقد سجلت، وبالطبع بتوقيع وهمي، هذه الأبيات أتحدث بها عن الدكتور ح. ع:
هز العصا وتنمرا
متمخطا متنخرا
لما رأى تاريخه
مستشرياً بين الورى
قالوا كتاب فاخر
قلنا تزيّد وافترى
وروى رواية جاهل
في حكيه عما جرى
لو كان ألطف ضحكة
أو كان أنعم منخرا
أو كان يوماً عاقلا
ما قال هالأكل..
والكلمة الأخيرة تلفظ ولا تكتب.
هذا بعض ما احتواه ذلك الدفتر من نثر وشعر.. ومن أكثر ما فيه إضحاكاً كان مقطع كتبه أحد أصدقائنا، وكان كاتباً وشاعراً وصحافياً معروفاً ولكن البؤس الذي نزل به زعزع اتزانه العقلي حتى بلغ به حافة الجنون، إنه المرحوم بدر الدين الخطيب الذي كتب في الدفتر المذكور صفحة بلغة توحي بأنها فارسية، كانت التعابير المؤداة بها تثير قهقهات كل من يقرأها أو يسمعها.
اشتهر أمر هذا الدفتر في تلك الأيام وكثر المتنافسون على الكتابة فيه، وكانت نهايته أن احتفظ به أحد الرفاق مشفقاً من أن يعتبر ما فيه إساءة إلى ذكرى الدكتور ع. رحمه الله وعلى كل فإن ما تضمنه من كلام سخرية وتندر لم يعق توزيع الكتاب الذي دعا إلى تأليفه، إن لم يكن زاد ذلك الكتاب رواجاً مما سمح لرفيقينا زهير وعبدالرزاق بأن يكملا ثمن شقة أستاذهما العزيز من واردات توزيعه.
كل هذا الذي ذكرته عن مقهى البرازيل لا يعدو أن يكون قليلاً من كثير من خصائصه، وهذا ما جعلني أقارنه بين المقاهي التي عرفتها وأعجبتني بالسعدان بين نباتات المراعي.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved