وهو يعني بهذا جليساً كان رواد البرازيل يجدونه جافياً وثقيل الظل، وذلك في زمن كان السحل والشنق مستشريين في العراق في انقلاباته العسكرية المتلاحقة. |
ويمكنني أن أعد من أولئك الساخرين اثنين يتميزان بالظرف والمرح، هما المحامي زهير الشلق والمهندس الزراعي عبدالرزاق كرد علي، كان هؤلاء الظريفان وراء حكاية دفتر مشهور اشترك رواد المقهى في تحرير محتوياته، تلك المحتويات كانت تدور حول كتاب "التاريخ المعاصر" للمربي القديم المتقاعد الدكتور ع. ح. وأنا أسجل في ما يلي بعض جوانب حكاية ذلك الدفتر. |
في ذات يوم أقبل هذان الصديقان في جلستنا الصباحية عليّ وقالا لي: عليك مائتا ليرة، يجب أن تدفعها لنا الآن! كان ذلك في أواخر الخمسينيات أو أول الستينيات الفائتة، وكانت لليرة السورية قيمتها الكبيرة آنذاك. |
سألتهما: ولماذا؟ قالا ثمن نسخة من الطبعة الجديدة لكتاب الدكتور ع. القديم، التاريخ المعاصر، لم أملك إلا أن أضحك وأنا أتوقع أن هناك ما يضحك وراء هذا الطلب الغريب، قلت: هذا كتاب مدرسي قديم قرأته وأنا طالب بكالوريا منذ اثني عشرة عاماً، ثم إن مائتي ليرة ثمن كبير لأي كتاب، ولو كان "تاريخ المعاصر" كما كنا نسميه آنذاك.. ما هي حكايتكما بالضبط؟ قالا: إن أستاذنا الدكتور ع. اشترى الشقة التي يسكنها في أحد أحياء دمشق، وقد نقصه مبلغ كبير من ثمنها، أشفقنا عليه، فطلبنا منه أن يعطينا النسخ الكاسدة من كتابه القديم ونحن نبيعها للأصدقاء، والمعارف ونأتي له بذلك المبلغ، أنت تعرف الدكتور ع. وتعترف بحقه علينا بلا شك. |
وحقاً كنت أعرف ذلك الأستاذ الكريم والقديم، كان شخصية متميزة في شكله وفي مشيته وفي طريقة كلامه التي تثير ضحك سامعيه لما يخالطها من شخير ونخير، داعية إياهم إلى الابتعاد عن مقعده للنجاة من تطاير بصاقه عليهم، ومن أراد إلماماً بشخصية الدكتور ع. ح. فإنه يجد وصفاً وافياً لها في روايتي "قلوب على الأسلاك" التي جاء ذكرها في الجزء الأول من هذا المقال، فقد كانت احدى الشخصيات المرسومة جيداً في كل أبعادها في روايتي تلك، ومهما يكن فإن المشروع الذي تبناه الصديقان زهير وعبدالرزاق مشروع إنساني يحمدان عليه ولا تنقص من قيمته طريقتهما الغريبة في تنفيذه، قالا: عليك مائتا ليرة.. قبلك دفع شكري بك مائتي ليرة ودفع محمد الميداني المبلغ نفسه، عدت إلى الضحك وأنا أقول: شكري بك، وهو شكري القوتلي، رئيس جمهورية سابق، ومحمد الميداني مقاول ورجل أعمال كبير.. أما أنا! وأضفت قائلاً: لكما مني خمسون ليرة، وأرجو أن لا تندما على ما أفعله بعدها، وناديت نادل المقهى وقلت له: يا نذير، هذا ربع ليرة اشتر لنا به دفتراً من المكتبة المجاورة. |
ومن هنا بدأت حكاية الدفتر الذي أتحدث عنه، جاء به نذير فكتبت على وجه الغلاف في حضور الصديقين: ما قاله رجال الأدب والفكر والسياسة في سفر المؤلف العظيم الأستاذ الدكتور ع. ح. "تاريخ المعاصر"! وأدرت الدفتر على الحاضرين في المقهى في ذلك الصباح ليسجل كل منهم كلمة فيها تعبر عن رأيه في الكتاب، كان أول المسجلين عبدالرزاق كرد علي نفسه، فكتب الكلمات الآتية: "هذا كتاب عظيم، واقترح أن يترجم إلى العربية"! وتتالت تسجيلات الحضور بكلمات ضاحكة وأخرى ظاهرها الجد وباطنها السخرية، في ذلك اليوم وفي الأيام التي تلته، من زبائن المقهى وأصدقائهم ومعارفهم، كان بعض تلك الكلمات موقعة بأسماء صريحة وبعضها بأسماء مستعارة، وهذه الأخيرة كانت تفيض بالتشنيع على صاحب الكتاب وهجوه والطعن عليه بالشعر والنثر. |
وكنت، بالطبع، من أول المعلقين على الكتاب، ما كتبته موقّعاً باسمي الصريح كان مديحاً للكتاب وصاحبه، أما الذي وقّعته بأسماء وهمية فكان شيئاً غير ذلك، قلت مثلاً بلساني، وكانت الصحف والإذاعات تتحدث في تلك الأيام عن غزو الفضاء والقمر الصناعي الذي حمل الكلبة لا يكا ودار بها حول الأرض: هذا الكتاب يستحق أن يرسل في احدى السفن الفضائية إلى سكان الأفلاك العليا ليطلعوا على مبلغ تقدمنا العلمي في هذه الأيام، وتحت هذه الكلمات كتبت، وبتوقيع مستعار، العبارات التالية: ماذا فعل بكم سكان الأفلاك العليا حتى تتحفوهم بهذا السم الزعاف؟ إن الكلبة لا يكا التي ماتت في سفينتها الفضائية قد لقيت حتفها من جراء أكلها ورقة من كتابكم القيم هذا، ويقال إنها الورقة التي تحمل اسم المؤلف! |
هذا ما كتبته نثراً، أما شعراً فقد سجلت، وبالطبع بتوقيع وهمي، هذه الأبيات أتحدث بها عن الدكتور ح. ع: |
هز العصا وتنمرا |
متمخطا متنخرا |
لما رأى تاريخه |
مستشرياً بين الورى |
قالوا كتاب فاخر |
قلنا تزيّد وافترى |
وروى رواية جاهل |
في حكيه عما جرى |
لو كان ألطف ضحكة |
أو كان أنعم منخرا |
أو كان يوماً عاقلا |
ما قال هالأكل.. |
والكلمة الأخيرة تلفظ ولا تكتب. |
هذا بعض ما احتواه ذلك الدفتر من نثر وشعر.. ومن أكثر ما فيه إضحاكاً كان مقطع كتبه أحد أصدقائنا، وكان كاتباً وشاعراً وصحافياً معروفاً ولكن البؤس الذي نزل به زعزع اتزانه العقلي حتى بلغ به حافة الجنون، إنه المرحوم بدر الدين الخطيب الذي كتب في الدفتر المذكور صفحة بلغة توحي بأنها فارسية، كانت التعابير المؤداة بها تثير قهقهات كل من يقرأها أو يسمعها. |
اشتهر أمر هذا الدفتر في تلك الأيام وكثر المتنافسون على الكتابة فيه، وكانت نهايته أن احتفظ به أحد الرفاق مشفقاً من أن يعتبر ما فيه إساءة إلى ذكرى الدكتور ع. رحمه الله وعلى كل فإن ما تضمنه من كلام سخرية وتندر لم يعق توزيع الكتاب الذي دعا إلى تأليفه، إن لم يكن زاد ذلك الكتاب رواجاً مما سمح لرفيقينا زهير وعبدالرزاق بأن يكملا ثمن شقة أستاذهما العزيز من واردات توزيعه. |
كل هذا الذي ذكرته عن مقهى البرازيل لا يعدو أن يكون قليلاً من كثير من خصائصه، وهذا ما جعلني أقارنه بين المقاهي التي عرفتها وأعجبتني بالسعدان بين نباتات المراعي. |