الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 30th June,2003 العدد : 18

الأثنين 30 ,ربيع الآخر 1424

طائر النورس.. أو إمبراطور الرومانسية
بقلم/ علوي طه الصافي (*)

* ابن ارومتي.. كلانا من شجرة مثمرة، باسقة، اصلها ثابت، وفرعها في السماء.
* غمز البعض منه فقالوا انه كاتب "رومانسي" في عصر تجاوز مرحلة "الرومانسية" وهي مسألة "جدلية"، أرادوا منها التقليل من أثره، وتأثيره.. متناسين ان جيلا من الكتاب.. والشعراء.. والقاصين تخرجوا من ردائه "الرومانسي" .. فتح لهم قلبه وصدره.. وفرش امامهم مشاعره الغنية.. شجعهم في بداية طريقهم الابداعية حين كانوا "نكرات".. و"أصفاراً على الشمال"..
* كما عرفته كان يحك شعر رأسه بعد ان يلقي غترته جانبا، انتشاء بكاتب جديد يحس بوعيه الفني انه سوف يكون له شأنه في المستقبل.. يفرح به كأن مولودا مستقل القسمات.. مخضوضر التضاريس ولد له شخصيا.. يحمل "جينات" ناصحة العافية.. خالية من الأمراض الوراثية!!
* لا يكتفي بالنشر لهذا المولود / الميلاد/ الجديد.. بل يضعه في المكان المناسب من صفحة الجريدة.. بعد ان يوشيها من ذوب وجدانه بمقدمة صادقة المشاعر، وقد يضيف الى ذلك بأن يشير الى اسمه بأصابع زاويته "ظلال".. ويظل في حالة انتظار الجديد من اعماله.. ولا يتركه حتى يستقيم عوده.. ويتحول إلى عصفور قادر على الطيران.
* كانت صفحته "السابعة" في جريدة "عكاظ" في الثمانينيات بستانا يفوح بأريج الزهور.. وترفرف على اكنافها الطيور الملونة، كأنها ألوان الطيف الشمسي.
* مكتبه دائما عامر بكل طبقات المجتمع كبيرهم، وصغيرهم.. فهو يعيش بالناس .. ويحيا مع الناس.. ويرتاح من اجلهم، وبوجودهم.
* زاويته الخالدة "ظلال" مشرعة دائما في وجه الريح، والعاصفة دون ان تتأثر.. تحتضن نسائم الربيع.. وتعانق شلالات "نياجرا".. فتزهر النرجس.
* في يوم تجدها مشرقة بالفرح.. وفي آخر تجدها عاصفة كإعصار "تكساس".. ومع ذلك، ظلت راسخة في وجه عوادي الزمن.. وتغير الطقس .. وظلام الليل.. و"غبش" الفجر كالنخلة ولا تزال لما يقارب نصف القرن.. فيها ملامح تعبيراته.. وتقاسيم وجهه.. وبوح وجداناته.
* فنان.. وكطبيعة الفنان لا يخلو من حساسية مفرطة، ألتقي معه فيها.. او يلتقي هو معي فيها.
* لقد كتب عني مرة الصديق الصحافي المبدع "المشاكس الشقي" الكاتب "محمد عبد الواحد" قائلا: "ان علوي، ولدته امه في سبت من البهارات، فأورثته حساسية مزمنة".. وقد صدق فيما قال.. ولله في خلقه شؤون.. وشؤون.
* وهذه الحساسية التي تجمع بيني وبين الصديق طائر النورس.. او امبراطور الرومانسية كما وصفته احدى الكاتبات الاستاذ "عبد الله عبد الرحمن الجفري".. هذه الحساسية هي التي قادت الصداقة المزمنة بيننا على سطوح "مطابع الاصفهاني" رحمه الله.. حيث كان يعمل هو في جريدة "عكاظ".. في الوقت الذي كنت اعمل في جريدة "البلاد"، في غرفتين متجاورتين.. كان ذلك عام 1386هـ الموافق 1967م كما اذكر وكان ذلك اللقاء الاول بسبب خصام بيننا لا ارى داعيا لذكره.
* وكان من الممكن ان ينتج عن هذا الخصام نوع من النفور الدائم.. او الكراهية المزمنة.. لكن لأننا ابناء عمومة دون ان يدري احدنا عن هذه القرابة الا استاذنا النسابة، استاذ الجيل "محمد حسين زيدان"، اذ قال يومها بروح الابوة "الدم يحن يا اولادي" فكدنا نبكي الثلاثة.. وهكذا تحول الخصام الى صداقة تاريخية مهما نأت بنا الدار، او شط بنا المزار.. صداقة نمت بالتقادم مودة، واحتراما، ومعزة.. تعمقت، وترسخت في الاسفار التي تكشف معادن الرجال.. وكما يقول المثل الجنوبي المسكون بالتجربة "من غاب عنك اصله فدلايله فعله".. حتى اننا حين ننزل في فندق نشترك معا في غرفة واحدة، ليس لتوفير ايجار الغرفة الثانية، وانما لنبقى معا.. فالتجاذب النفسي الذي يشدنا الى بعض، انما هو التجاذب الذي يشد الشقيقين.. ولهذا قال حبيبنا المصطفى سيد الاولين والآخرين، ومسك الختام: "الارواح جنود مجندة، ما تآلف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف".. وقد تآلفت روحانا.
* اذكر حين دعانا سمو الامير الشاعر الكبير "عبد الله الفيصل" لحضور حفل تكريم "جاك شيراك" عمدة باريس لسموه يومذاك، بمناسبة منحه "وسام باريس".. انزلنا سموه في ارقى واغلى فندق في باريس، بحيث خصص غرفة لكل مدعو.. يومها لم يرتح صديقي "الجفري"، وقال لي بصرامة فيها ود "شوف يا علوي، اما ان تنتقل لتشاركني غرفتي، او انتقل انا الى غرفتك".. وبصفته اكبر مني ببضع سنوات حملت شنطتي لأنتقل الى غرفته.. ولم نفترق الا حين سافر الى جدة حيث يقيم، ورحلت الى الرياض حيث اقيم.
* اما كونه رومانسي الاسلوب.. فمن افتى بأن الرومانسية سبة، او منقصة، او عيب .. ان الرومانسية كما افهمها تعيش في اعماق كل انسان.. وربما كان الانسان الشرقي اكثر رومانسية بحكم الظروف والعادات والتقاليد السائدة.. والتي تحكم علاقات الاهل والناس ببعضهم.
* فكل شرقي تسكن الرومانسية اعماقه.. وتسيطر على مشاعره الانسانية.. وهي تتحكم بمتخيلاتها الذهبية.. وشطحاتها المجنحة.. ونفورها من حياة الاكتظاظ النفسي.. والزحام البشري.. والمباني الاسمنتية التي لا قلب لها.. بحيث يفقد فيها الانسان جوهره النفسي النقي.. وتسيطر على حياته مشاعر القلق.. وحياة الاكتئاب والاختناق!!
* فالرومانسية هي الرفض الانساني لحياة المدينة الصاخبة.. والتشوق إلى حياة الهدوء والراحة النفسية.. واقامة العلاقات الحميمة الدافئة مع الآخرين الذين يشتركون في المشاعر فرحا او حزنا.. وتسود بينهم المودة، والحب الذي يسمو على "الماديات".. والمصالح "الانوية" الموغلة في "الاثرة".. و"الطبقية" والثراء الفاحش في جانب .. مع الفقر المدقع في جانب آخر.. وهذه "الطبقية"، اجتماعيا كانت، ام مادة هي التي تقود الى الفروق بين الناس، فتتفشى الجريمة.. وينتشر الغش والفساد، وعدم الاطمئنان.
* ومن قرأ كتاب "SMALL IS BEAUTIFUL"، أو "الصغير جميل" لأدرك ابعاد جمال الرومانسية .. انني حين يضيق صدري اسارع الى فتح ازارير صدري، وانكش شعر رأسي الغارب لأستمتع بما يكتبه "الجفري"، بل اتمنى ان يكون لدينا اكثر من "جفري" لنشعر، ولو لمجرد الشعور ان الحياة لا تزال جميلة.. وان الحب فيها لم يتحول الى دعارة رخيصة.. وان الامل لا يزال هو القطار النادر لكل ماهو جميل.. واننا في الامكان ان نعيش سعداء من الداخل اذا هبت "رياح الخماسين".
* واذكر ان الروائي "اريك سيجال" الف رواية رومانسية بعنوان "قصة حب LOVE STORY" في العصر الحديث.. عصر ما بعد الرومانسية.. وقد اخرجتها "هوليود" في فيلم سينمائي ظل يعرض في اكثر من الف صالة عرض سينمائية في العالم لفترة تزيد على عام، وكان الاقبال على الفيلم من الجنسين كأنهم في "كرنفال".
* حضرت الفيلم في بيروت بواسطة، وبشق الأنفس.. فكان المتفرجون أثناء العرض تمطر دموعهم، وتبلل مناديلهم وتجهش قلوبهم كأنهم قادمون من "العصر الرومانسي" المنحسر، والسبب بسيط جدا يتمثل في ان داخل كل منا شيئاً اسمه "رومانسي" هو الحنين الى الانسانية الضائعة في خضم رعب "التكنولوجيا" القاتل لكل شيء جميل في حياتنا المعذبة بالأكل المعلب.. و"الساندوتش" الجاهز.
* حياتنا كلها تحولت الى كيمياء حتى في داخل غرف نومنا.. فماذا بقي لنا غير الموت البطيء.. او الموت بالتقسيط.. وهذه اكبر مأساة وكارثة تمر بها البشرية.. فلتذهب الواقعية، وما بعد الواقعية الى جحيم الجحيم، قد تتهمونني بأنني رومانسي أكثر من الرومانسية والرومانسيين.. ولو عرفتم حالي لما ذهب بكم الخيال الذي اصله رومانسي.
* وللصديق العزيز الدكتور غازي القصيبي رواية اسمها "حكاية حب" هي فرع من شجرة الرومانسية رغم انه كتبها في بلد اقل ما يقال فيه انه "حبحب عا السكين".
* واذكر يومها ان الاديبة الواقعية شكلا، الرومانسية مضمونا احتجت على رواية "قصة حب" وكتبت بالنص مقالا قالت فيه انها "ردة" الى العصر الرومانسي.. مع انها تغتسل بالرومانسية، شاءت ام لم تشأ.
* ورغم ما قيل عن صديقنا "الجفري"، ورومانسيته الا انه نال "جائزة الابداع العربي" من منظمة التربية والثقافة والعلوم بتونس.. وقد سررت لذلك، كما سررت حين كرمه الامير خالد الفيصل في مهرجان ابها السياحي.. وكرمته جريدة "الرياض" ممثلة في ربانها الصديق العزيز "تركي عبد الله السديري" الذي اتمنى عليه ان يجعل هذا التكريم كل سنة لشخص ممن لهم تأثيرهم في حياتنا الادبية والصحافية قبل ان يواريهم التراب في غصة وحسرة، وشعور بالجحود في ارض الكرم والتكريم.
* وطائر النورس الصديق "عبد الله الجفري" يشجيك بصوته الحزين "المتعب"، بفتح العين، و"المتعب" بكسر العين!!
* فنان من شعر رأسه الذي غزاه غبار الشباب، الى اصابع قدميه، او اخمصها، كما تقول العرب.. وهما راحتا القدمين.
* يمتلك اسلوبا آسرا مميزا، لو حذفت اسمه من اي موضوع يكتبه، وكنت من المدمنين على قراءة اسلوبه لقلت على الفور انه "اسلوب الجفري".
* لا يعجبني حين يكتب في "السياسة"، لانه يكتب ادبا.. والسياسة والادب لا يجتمعان اسلوبا.. ولا مواقف، او توجهات.. فاذا كانوا قد قالوا ان السياسة "فن الممكن" فالأدب "فن غير الممكن".. السياسة يمكن تدجينها.. والادب يصعب تدجينه.. واذا كان للسياسة اسلوبها الشكلي الخاص بها.. فإن الادب له اسلوبه الشكلي الخاص به.. والسياسة "ادارة علاقات عامة مرنة".. بينما الادب ليس له ادارة علاقات مرنة.. والحديث في هذا الموضوع يطول.. ويطول.. وفي النهاية تظل وجهة نظر شخصية قابلة للجدل الذي قد لا ينتهي.
* حين كان يأتي صديقنا "الجفري" الى الرياض يترك "فلل" ارحامه بصالاتها الواسعة، وفرشها الوثير ليسكن في شقتي "تجاوزا" بل كوخي بكل سوءاته، حيث تتكون من غرفتين مساحة كل واحدة منها لا تزيد على "3 X3م" بينهما حمام ومطبخ لا يتسع كل منهما لدخول شخص واحد من وزن الريشة.. وهي شقة ارضية كوني "عازبا" والعازب في اي زمان كالكلب الاجرب، ومطعون في سلوكه حتى لو كان قمة في سلوكه واخلاقه، ومن اسرة كريمة معروفة.. ولكل زمان عاداته وظروفه.
* وبمناسبة مجيئه كان يزورنا كما اذكر مع حفظ الالقاب "عبد الله حمد القرعاوي عبد الله الماجد احمد الصالح المسافر دائما حتى لو كان موجودا في الرياض حمد عبد الله القاضي الذي كان يوقع في بداية كتاباته "الشابي الصغير" او "مسيمير".. واسماعيل كتكت رد الله غربته.. وغيرهم ممن لا اذكر اسماءهم".. وتقام من اجله الولائم فترتاح معدتانا من اجل "الساندوتشات" يوميا.. حيث ننعم بأكل "الكبسة" .. و"الجريش".. و"المرقوق".. و"المطازيز".
* والصديق "الجفري" يمتلك قدرة خاصة على ابتكار بعض المفردات اللغوية الجديدة من خلال "الاشتقاق" في اللغة فيدمغها بروحه "الجفرية".. بل يسبل عليها احيانا مدلولات غير معجمية، وهذه الطريقة استفادها من استاذ الجيل العبقري "الزيدان" طيب الله ثراه.
* ويندر ان تجد دارسا او ناقدا يؤلف كتابا عن فن المقالة.. او الرواية.. او القصة القصيرة في المملكة دون ان يشير بأصابعه العشر الى "الجفري".. واذا لم يفعل ذلك فإنما لجهله بالحركة الادبية في المملكة.. او ان معلوماته قاصرة.. ومراجعه ومصادره شحيحة.. وهذا لا يعفيه من القصور والتقصير..
* وأعترف لكم انني حذفت صفحتين مما كتبته عن الصديق "الجفري" تخوفا من اعتداء الاخ الاستاذ ابراهيم التركي الذي حذف من احد موضوعاتي ما لا يستحق الحذف.. وهو امر مزعج لكاتب قضى اربعين عاما في الكتابة.. ورغم هذا العمر الا انه لم يسلم من "القضم" الذي يوجع لكنه لا يسيل دما، ومع ذلك اشعر بمودته.. وتهذيبه.. وتواضعه.
* واخيرا اقول لصديقي "الجفري" ان الكلام عنك اطول من طريق جدة الرياض، عن طريق البر في سيارة "عراوي خردة" لأن هذه الطريق تأخذ مساحة اوسع من هذه المساحة.. وأختصر ما اريده ألغازا قائلا لك "وحشتنا يا عبد الله.. وحا عقدك .. ولا يكلك يا عزوز.. والريل يا حمد .. واسلوبك "ينغل".. وباريس، والاسكندرية، وبيروت، وصوت فيروز .. والروشة، والرملة البيضاء.. ومعزوفة درويش متجول .. كل هذه الرموز تسلم عليك.. اما انا فأسلم عليك وايد وايد.. وادعو لك صادقا من اعماق اعماقي ان يسلم لنا قلبك الذي اتعبته فأتعبك .. ومن جار على شبابه جارت عليه شيخوخته.. لكنني اعرف انك كالقط الذي له سبع ارواح.
وفي الاخير اقول لك ما يقوله المثل النجدي "الله لا يبين غلاك"، وما يقوله المثل العسيري "خذت موتك" وما يقوله المثل اللبناني "تقبرني".
وسلامة قلبك يا ابن العم..
+++++++++++++++++++++++++++
(*) ص.ب: 7967 / الرياض: 11472
+++++++++++++++++++++++++++
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved