الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 30th June,2003 العدد : 18

الأثنين 30 ,ربيع الآخر 1424

قصة قصيرة
صعاليك
عبدالله محمد النصر
"بخيل!!"
شفاهها أعتاب بعفوية بعدما أخذت الطفلة "سارة" الريال من أبيها فتآكلت حروفها على كلمة طوت "الريال" بأنامل شبيهة.. المنهك تآكل الألم على سفوح كيانها الضامر.. جففت بكمها الخلِق عصارة فؤادها بددت غياهب الحزن بابتسامة ينتشر ضوءها رويداً رويداً.. طعامه بعود الثقاب.. قبضت عليه قبضة الضاري فطفقت متعة النجاح تسكب في ساحات قلبها كل السعادة والفرح، فقالت متمتمة، المحمرة على قسماتها الناعمة.
من زمان وأنا أحاول أن أحصل على هذا "الريال" مثل باقي البنات وأخيراً حصلت.. أيدي ما تعطي بسهولة.. كل يوم بكره.. بكره.. بكره.. الظاهر ما تفيد غير القوة..
وبحثاثة الريح التقطت بيديها نعلها الفاغر فاهه، المكسو بمسحة بيضاء من الغبار وبعض الوحل اليابس.. رامية دون عناية على قمة رأسها المستطيل عباءتها السوداء المتسخة.. هاربة إلى باب الخروج الخشبي.. لتصفقه بقوة الانفجار فتخلخل ما بقي منه.. صفقت به ولم يقع البيت الطيني، ولم تنسل جذوعه المنتخرة من قوة الصفقة التي زلزلت تجاعيد وجه والدها الغائرة في الزمن القاسي، والمتصدي لجوره ومآسيه.. الصفقة التي استلبت جموده وسكونه ليتجه نحوها، هادراً بآلة صوته وابل احتراق بقدر ما يتطلبه موقفها الطفولي: "تعالي.. يا بنت ال....."
غاصت خطوات "سارة" الحثيثة المتباعدة في أحشاء الزقاق الرملي.. تعفر عينيها السوداوين في مسافاته وفي بيوتاته المنزلقة على حوافه دون ترتيب، الحاملة أعباء الدهر، السابرة أغوار أهلها، الساترة خوافيهم، المتداخلة في بعضها البعض، والتي تعبر مرة عن عمق الرابطة والتلاحم القروي، ومرة أخرى تعبر عن قسوة مأساة الضيق والكآبة.. تخلف وراءها أبواباً قابضة على الحياة بقوة صمود جدرانها العائمة في فيافي الفقر وسلطته الجائرة.. تخلف نوافذ استلب منها جلبابها ليسطو من خلالها ما يشق على النفس استنشاقه وعلى الأجساد المتربعة في الحرمان اكتنافه.. "سارة" تركض، وبتجاهل تشرب بقدميها النحيلتين العاريتين وهج شمس الظهيرة الكاوي.. مثبتة فوق رأسها بظهر كفها القابض على النعل الذي لم ترتده العباءة المهترئة التي تتأرجح وخصلات شعرها المتكسرة لولبياً من ورائها ليبدو فستانها ذو الألوان الباهتة جلياً ملتصقاً بجسدها، وتغتال ترتيبه ركلات الهواء المصطدمة مقدماته.. تختلس نظراتها الهائمة في المجهول الذي ربما يطاردها من خلفها، وتردد عابسة: "بخيل.. بخيل.. ولست خائفة" وهكذا تنهب مسافات الأزقة الضيقة في وله غير مكترثة إلى مفاجآتها.. وإذا في المنعطف الضيق.. تنتصب بغتة امرأة عجوز أعفاها الزمن وقصر جسدها الهرم عن إمدادها بالقوة التي تعينها على تحقيق ما تؤول إليه ببساطة.. تصطدم "سارة" بمتون المرأة المتهالكة، فترتطم أوصالها الطرية المشرفة على الانهيار بأرض الزقاق.. فيتردد صدى العجوز كالنائحة الثكلى على متون الجدران السابحة في الأحشاء التليدة: "آي.. يي.. يي.. يي" ثم أهلّت سحبها المثقلة أمطارها متقطعة موحلة نتنة: "عما.. والله عما.. أفتحي اعيونك.. والا صحيح انتِ عميا؟؟". وبالرغم من أن الخوف يعيث في قلب "سارة" المضطرب.. والرعشة تمتزج بدمها المتدفق في أودية الألم.. إلا أنها لم تكترث للمرأة العجوز وشتائمها وتهكمها.. وكذا لم تأبه بالألم الذي أصابها جراء الوقوع.. فنهضت وقبل كل شيء بعينها وبملمس أصابعها تُطمئن قلبها بوجود "الريال" في يدها.. فرأته لم يزل يشكو ألم تكسر ضلوعه في أعماق راحتها المليئة بالعرق.. فاطمأنت وهدأت من روعها، ثم لملمت أشلاءها لتعاود جريها اللاهث تتلقط ألوان عقبات الطريق.. والحرارة الشمسية تسطو بداخلها فتوشح سيماءها الرقيقة لتبدو وكأنها وردة حمراء ذابلة.. تستنشق الهواء الجاف فيتغلغل في ردهات حلقها فيزيده جفافاً وتجريحاً.. تركض.. وتركض.. تمخر المسافة السامقة الموغلة في الطريق المغمى عليه من الحرارة الصيفية، والتي تنسل إلى أمعاء طفولتها لتغفو في زواياها المنهكة.. ولسان حالها يلهج بخواطر شبق المأمول.. وتعزف على أوتار شفاهها كلمات عتاب ساخرة عقيمة:
"والله.. تمشي في الجهة الموجودة أنا فيها.. وتلومني.. ال..!"
وبحركة لسان يمتد بحجم تهكمها يخرج وتلتف من حوله شفتيها اليابسة: "هـ أأأ...".
وفي هذه الأثناء اتضحت معالم الحانوت "البقالة/ الدكان" الذي يبعد مائتي متر يغوص في قزحية مقلتيها، ويرسو على مرفأ قريتها العائمة في الرمال المتحركة.. هدأ جريها.. وقرع النابض يترنم على وقع أوتار خطواتها المتباطئة.. تمشي وفي كل برهة تطمئن ذاتها على وجود "الريال".. وحينما تمر بجانب الأطفال أترابها تناديهم: "هأأأي.." فتريهم إياه من منأى بغرور مبتسمة أو متضاحكة.. فينادونها إما بالوقوف، فتقابلهم بالهرب، وإما بالمشاركة فتقابلهم باهتزازات الرفض القاطع، حتى مضغت أقدامها مسافة الطريق لتصل إلى الحانوت، فدلفت بداخله رامية ب"الريال" في وجه صاحبه.. وكأنها تلجم فاهه وتقيد جوارحه.. تناول الحانوتي الريال بضحكة ساذجة ساخرة، منادياً لها وهو يهز رأسه يمنة ويسرة.
"تعالي.. يا بنت ماذا تريدين؟.."
"أريد.. بسكوت بالشوكلاته.. الذي بداخله هدية!"
قالت ذلك وهي تبحث عنه في أرجاء الحانوت، فبادرها بذات ضحكته: "تعالي.. يا بنت.. تعالي أقول لك.." اقتربت منه وهي تصف له شكل البسكويت بكلتا يديها ظناً منها أنه لم يفهم ما تريده.. فقال لها:
"أعرف.. أعرف ما تريدين.. لكنه بريال وربع.. لا بريال فقط.. يا لله مع السلامة".. شعرت بأن كلماته كخنجر انغرز في قلبها.. أحمرّ وجهها.. فقالت بذهول "هاه!!" فغرقت في الصمت، وهو يرمي إليها بالريال بتجاهل وكأنه يرد لها الكيل.. لكن الأمل فجر ينابيعه في ردهاتها الغائصة في الحلم.. فبادرته بكلمات ملؤها الاستعطاف والتوسل: "الله يخليك.. أعطني إياه بريال.. ما عندي غيره.." فحدقت في عينيه تبحث فيهما عن الرحمة.. تبحث في كنفهما عن الأمل والحلم الرطبين الضائعين، لكنه تركها تعود تجر أذيال الخيبة: "خذي ريالك.. يا بنت.. وروحي آتيني بالربع الباقي.. وإلا خذي أي شيء غيره بريال، أو لا أراك مرة ثانية.." تصلبت وقفتها ويداها تقبض بقوة على تلك الطاولة المفترشة شتى الحلويات.. كادت أن تبكي.. وهو يكمل حديثه بتمتمات مسموعة: "نحن.. ربحنا في هذا الربع.." ما فتئت نظرات "سارة" تغوص في بحور عينية بضع ثوان وكأنها تذيب جبال الجليد في أحشائه.. لكنها لم تستطع، فما وجدت إلا العواصف الثلجية تدفعها خارجاً.. وترمي بأحلامها جانباً.. خرجت "سارة" خائبة، قابضة على ريالها براحتها، وفي عينيها دموع، وبقلبها انكسار، ومن حلقها شهقات تستثار.. تسير في الزقاق الرملي.. فتنغمر في أحشائه، وهي تتمتم: "كلهم بخيلين.. بخيلين.. وهذا.. أبخل من أبي.."
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved