Culture Magazine Monday  30/07/2007 G Issue 209
فضاءات
الأثنين 16 ,رجب 1428   العدد  209
 
(النقد الذاتي بعد الهزيمة)
قراءة معاصرة ..... «2»

 

 

- غازي أبو عقل:

الدين والدولة والعلم والعصرنة

يرى الدكتور العظم أن العودة إلى الماضي ليست ذات فائدة، وأن التمسك بالتقاليد البالية يعيق التقدم. هذا التقدم الذي يحتاج إلى: (ثورة شاملة حاقدة على الأنماط التقليدية الاتباعية المتوارثة في الإنتاج والتفكير والتنظيم والحكم) ص16.

فليكن، أما أنا فأرى - العودة - لا تخلو من فائدة. بدليل أن عودتي إلى الوراء أكثر من ربع قرن لأقرأ النقد الذاتي قراءة معاصرة، جنيتُ منها فوائد جمّة، إضافة إلى المتعة التي غمرتني أثناء إعادة اكتشاف الكتاب بعد تلك السنوات كلها.

كتب الدكتور العظم في سياق دعوته العرب إلى الأخذ بالعلم والعصرية (العصرنة ما كانت دارجة يومئذٍ لأنها اشتقاق ما بعد حداثي) إذا أرادوا الانتصار في مواجهة إسرائيل. وفي الصفحة السادسة والعشرين من كتابه: (فالعلم والعصرية يعنيان مثلاً العلمانية وفصل الدين عن الدولة، مَنْ مِنَ المسؤولين تجرأ على المجاهرة بذلك بدلاً من تغليف الحقيقة داخل تعميمات فضفاضة حول العلم والعصرية).

في هذا المنطلق خلل واضح، فليس في علاج أمراض المجتمعات (دواء) يشكل قانوناً حتمياً، كي نقول (لو كان المجتمع في حالة كذا لما حدث له ما حدث).

والصراع العربي الإسرائيلي المعقد جداً لا يتغير مساره بإجراء عملية استئصال (الزائدة الدودية) عفواً - الدينية - (فالدين) في المجتمع العربي (كالدولة) تماماً، يعاني كل منهما من الأدواء نفسها.

ولو كانت الدولة العربية، وبخاصة تلك التي ثارت على بُناها القديمة، قد نجحت في بناء دولة المؤسسات الاجتماعية والسياسية، كما يريد الأستاذ العظم في أكثر من مكان في كتابه، لكان (الدين) قد أخذ مكانه العادي، وهذا ما كان في طريقه إلى الحدوث في مرحلة ليست بعيدة.

ولا أشك.. بأن الأستاذ العظم على معرفة بالأمر.

ولو أنه تمعّن في التاريخ المعاصر للمنطقة العربية، بُعيد الحرب العالمية الثانية - مثلاً - لاكتشف ما أدهشه.

ناهيك عن أنه تغاضى عن وجود أديان عديدة في المنطقة متمايزة في كثير من التفاصيل، لا ديناً واحداً خصّه وحده بالنقد الذاتي.

العجيب أن الأستاذ العظم لم ينظر إلى الطرف الآخر من المعادلة - إسرائيل - ولم يتساءل عن دور الدين والأحزاب الدينية المتطرفة في ميزان السياسة الإسرائيلية، أليسوا هم (بيضة القبان) في تشكيل الحكومات الإسرائيلية المتنوعة من يسارية ويمينية، هذا الدور الذي حدده اتفاقهم الباكر مع بن غوريون كما هو معروف حين أخذ منهم ما اعتبره مهماً للحكم المدني وأعطاهم كثيراً مما طلبوه من أجل المحافظة على (الطابع اليهودي للدولة).

ألا يوجد في الجيش الإسرائيلي - حاخام أكبر - سلطته الفعلية تتجاوز سلطة الحاخامَيْن الأشكينازي والسفارادي، تعاونه هيئة حاخامين عسكريين لهم في كل تشكيل عسكري وجود قانوني، يقوم عليه، حاخام ضابط، يرعى شؤون رعيته الروحية وغير الروحية.

ومن يستمع إلى أقوال زعماء إسرائيل - حتى لا نقول ملوكها أو أنبياؤها كما تريد التوراة - ومن يقرأ ما يكتبون، لا بد له من أن يعثر في كل صفحة على شهادة توراتية أو تلمودية وظيفتها تسويغ ما يقومون به من أعمال سياسية حصراً.

حتى المثقفون اليهود والأنغلوسكسون غير الصهيونيين، وهؤلاء يعرفهم الأستاذ العظم أفضل مني، كانوا يأخذون على الحركة الصهيونية وليس على إسرائيل الدولة فحسب أنها (لم تفصل الكنيسة عن الدولة)، وإذا عدنا إلى السنوات الأخيرة، لوجدنا بنيامين ناتانياهو - وهو علماني على ما يُقال - لا يمل من التأكيد على أن إسرائيل نتجت عن عبقرية ثقافية محددة، يُعتبر البعد الإلهي فيها محورياً، أي كون قوله هذا سبب نجاحه في انتخابات التاسع والعشرين من أيار 1996م، حتى السلاح النووي الإسرائيلي، الذي كان جاهزاً في 1967، أعطى الإسرائيليون خطة استعماله - إذا دعت الضرورة - اسماً يحمل محتوى دينياً: (يوم القيامة). هذا إذا تناسينا فحوى اسم (إسرائيل)..

ولما كان الأستاذ العظم ضليعاً في الشؤون الفلسفية، أسوق إليه قول آفي جيسِّير: لو قام موسى بن ميمون أو الحاخام عكيفاً ألدار من قبريهما فسيكون لديّ ما أتحدث به معهما وما أناقشه، بينما لو قام أفلاطون من قبره، فلن يكون لدي ما أتحدث به معه.. دون أن ننسى قول يوسف غورني: إن الدين، من وجهة نظري، هو قوميه قبل كل شيء.

(غورني رئيس معهد وايز من للدراسة الصهيونية في جامعة تل أبيب).. هذا غيض من فيض كما يقال.. فكيف تلعب هذه (الكمية) الهائلة من الدين في إسرائيل دوراً يؤدي إلى النصر، بينما لعبت (كمية) أقل منها بكثير في معسكر دول المواجهة المباشرة عند العرب دوراً أدّى إلى الهزيمة؟ لعل دينهم أفضل في الحروب؟.. لا بد من أن يكون الدكتور العظم قد قرأ ما كتبه بن غوريون..... المسلح المعاصر: (أشعر بأن عليّ الارتباط بالتوراة من أجل بناء دولة صهيونية).. فما هو موقف الدكتور العظم لو أن أحداً من قادة مصر أو سوريا في 1967 شعر بأن عليه من أجل تحرير ما احتلته جماعة بن غوريون... أن يرتبط بالقرآن لا بغيره من الكتب السماوية؟.. رغم كل ما قيل عن الأسباب المادية الاستعمارية التي وظفت من أجل إقامة (الوطن القومي اليهودي) في فلسطين، لجأ أصحاب المشروع القدامى إلى إلباسها الجبَّة الدينية.

وهذه شهادة ذكرها مؤلف (سلام ما بعده سلام) دافيد فرومكين، جاءت في الصفحات 316 و 317 و 334 و 335 من الترجمة العربية بقلم الأستاذ أسعد كامل إلياس - الناشر رياض الريس 1992: (في غمار الحرب العالمية الأولى، وبريطانيا تسعى إلى إنشاء الوطن اليهودي في فلسطين، كانت الأهداف وقناعات السياسيين والعسكريين أصحاب القرار، ترتدي مسوحاً توراتية - ليو إيمري، مارك سايكس، مساعد، أميني السر في مجلس الوزراء الحربي) والجنرال سمَطْس عضو المؤتمر الحربي الامبراطوري - القادم من جنوبي إفريقيا - وكان من البوير المتعصبين ومؤيداً قوياً للصهيونية، لأنه تربّى على قراءة التوراة، وكتب: (إن شعب جنوب إفريقيا خصوصاً السكان الهولنديين الأقدم عهداً، قد تربوا تربية كاملة على التقاليد اليهودية).

إن العهد القديم هو عصب الثقافة الهولندية في جنوب إفريقيا-.

وقد نشأ سمطس وكذلك لويد جورج، رئيس الوزراء، على الإيمان (بأنه سيأتي اليوم الذي تتحقق فيه كلمات الأنبياء ويعود شعب إسرائيل إلى أرضه).

ومنذ صدور وعد بلفور، تحدثت التايمز اللندنية الواسعة النفوذ عن (روح التوراة) التي هيمنت على حفل أقيم في دار الأوبرا في لندن - الثاني من كانون الأول ديسمبر 1917.. بحضور سير مارك سايكس، وأضافت: كان لا بد من أن يكون الأمر كذلك، إذ إن النبوءة التوراتية كانت الدافع الأول والأكثر ديمومة، من بين دوافع عديدة حدتْ بالبريطانيين إلى أن يرغبوا في إعادة اليهود إلى صهيون).. ليس المهم أن نصدق هذه الأقوال، بل أن نحاول فهم كيفية رسم الاستراتيجيات التي توظف العناصر المُتاحة للتفوق على خطط (الأعداء)..

- حلب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة