Culture Magazine Monday  30/07/2007 G Issue 209
فضاءات
الأثنين 16 ,رجب 1428   العدد  209
 

من كتب السيرة الذاتية
عندما كنت وزيرا
قاسم حول

 

 

لكتب السيرة الذاتية مذاق خاص في القراءة سيما إذا ما كان كاتب السيرة وصاحبها مرهفا وصادقا وحقيقيا في تدوين سيرته ومذكراته. وكلما أمعن كاتب السيرة الذاتية في صدق التدوين، كان الكتاب مشوقا. ومن خلال كتب السيرة الذاتية نكتشف التأريخ والحقائق ونعرف مواصفات المكان وشكل الناس وسيكولوجيتهم الذاتية والاجتماعية ونطل على مراحل سياسية وثقافية واجتماعية. وهي مرجع للباحثين سيما في الفترات قبل اختراع الصورة الثابتة والمتحركة حيث قادتنا تلك السير الذاتية إلى شؤون ما كنا نعرفها لولاها. وبعد أن اخترعت الصورة بشقيها الثابت والمتحرك باتت كتب السيرة الذاتية تتركز أهميتها في الحالة الانطباعية بمعنى رؤية الكاتب الذاتية للواقع.

(عندما كنت وزيراً) كتاب من كتب السيرة الذاتية للدكتور عبد الأمير رحيمه العبود وهو كتاب ممتع تكمن متعته في صدق التعبير منذ اللحظة الأولى عندما قدم الكاتب نفسه وقدم حياته الاجتماعية والعائلية ضمن مجتمع تسير فيه الحياة بدون تعقيد بدون كراهية وتنمو أحداث الواقع من خلال السيرة لنلمس بدايات الصراع السياسية التي انعكست بالضرورة على الحياة الاجتماعية والقيم الأخلاقية للفرد وللمجتمع.

ومع أن عنوان الكتاب يوحي بمذاكرات الكاتب في فترة استيزاره بعد سقوط النظام الدكتاتوري ليؤرخ المرحلة القصيرة التي عاشها في الوزارة كفترة استثنائية مرتبكة في تأريخ العراق، لكن الكتاب هو سلسلة مراحل حياتية للكاتب لمسنا من خلالها المراحل الاجتماعية والسياسية للواقع العراقي ومراحل الدراسة للكاتب في ألمانيا.

منذ الصفحات الأولى، منذ الفصل الأول المعنون (ناحية المجر الكبير) عندما يتحدث الكاتب عن تلقائية الحياة وبساطتها وجمالها وقبل أن يتوغل في التأريخ منذ نهاية الثلاثينات وحتى وقتنا الحاضر، فهو ينهي الفصل بثلاثة سطور فقط تضعك في مأساة التحول ومأساة التغيير التي قادت البلاد نحو الخراب، فأنت تتعامل مع الكتاب بما نطلق عليه التغريب أي أنك منذ البداية سوف تفسر الأحداث على أنها تؤول نحو التدهور فيضعك الكتاب في دائرة الوعي منذ البداية وتبقى تقرأ وفق هذا المنطق فهو فجأة يقول لك وهو يتحدث عن نهاية الثلاثينات من القرن الماضي (زرت هذه المدينة قبل سنوات فوجدتا خاوية منهكة وقد تلاشت واندثرت فيها كل معالم الازدهار والنشاط، فتألمت لما حل بها خلال السنوات الخمسين الماضية) .. أنت هنا تشعر منذ بداية علاقتك بالكتاب بأنك أمام ذكريات لمدينة ولبلاد ستحل بها الكوارث وتبقى تفسر كل مقطع من ذكرى تفسيرا يقع تحت فكرة التغريب.

والعلاقة بين الكاتب والمتلقي هي أيضا علاقة يربطها الزمان والمكان، فمتلق مثلي عاش الأحداث وعاصرها فإن وقع الكتاب أكثر تأثيرا من وقعه على متلق ولد في الغرب لا يستطيع مهما ازدهرت مخيلته أن يتصور تلك الأمكنة ويفهم تلك المشاعر وسط زحمة التطور التقني والمديني، ولذلك فإن لهذا الكتاب نكهة متميزة لمن عاصروا الأحداث.

لماذا عنون الكاتب سيرته (عندما كنت وزيرا) فيما ثيمات الكتاب متعددة ويمكن أن يجمعها عنوان أكثر ضما وشمولية لمجريات السيرة الذاتية؟ وجدت في محاولة لتفسير العنوان أن الكاتب أراد أن يختصر تلك الفترة القصيرة التي أصبح فيها وزيرا للزراعة أن كل تلك الأحداث السياسية والاجتماعية لم تكن سوى بناء يقوده لأن يصبح وزيرا ممثلا عن تيار وطني أفرزه الواقع العراقي وهو تيار الحزب الوطني الديمقراطي الذي أسسه الشخصية العراقية الوطنية كامل الجادرجي. وأنا شخصيا عملت فترة من الزمن أبان دراستي في معهد الفنون الجميلة في بغداد، عملت في صحيفة الحزب (المواطن) مسؤولا عن القسم الثقافي في الجريدة، وأعرف مزاج ذلك التيار الجميل الذي قاده الجادرجي والذي في تأبينه قال كمال جمبلاط (تعلمنا الديمقراطية في مدرسة كامل الجادرجي) .. لم أكن أتمنى لواحد من منتسبي وأصدقاء هذا التيار الصافي الرؤية أن يزج نفسه في وزارة لمرحلة استثنائية ينخرط فيها كل من يريد أن يصبح في دائرة الضوء والاستفادة الذاتية بكل معانيها، مهما بلغ مستواه الثقافي والسياسي حتى في أحط حالاتها.

فترة الاستيزار في هذا الكتاب الجميل أعطتنا مؤشرات خطيرة عما يحصل في العراق. فالدعاية والأخبار كثيرة ومزدحمة، حقيقية أو مبالغ فيها لكنها عندما تأتي من الوزير نفسه وما حصل له أثناء نشاطه كوزير سجلت حقائق خطيرة في تأريخ العراق المعاصر بعد سقوط نظام الدكتاتور والحزب الواحد. يقول الكاتب (الوزير) في الحكومة المعينة من قبل قوات التحالف (الاحتلال لاحقا) وفي الصفحة 275:

في اليوم الأول من مباشرتي العمل طلب مني المستشار الأمريكي في وزارة الزراعة السيد وديارد نقل أحد الموظفين من ديوان وزارة الزراعة بسبب المشاكل التي كان يثيرها قبل إلتحاقي بالعمل، فوعدته بدراسة الموضوع، وبعد الاستفسار عن هذا الشخص خلال اليومين التاليين علمت بأنه كان من بين من حافظوا على ممتلكات الوزارة من النهب، فقررت تعزيز موقعه في الوزارة. هذه دلالة خطيرة تقودنا إلى الجهة التي عملت على تخريب العراق وإلا كيف يطلب مستشارا أمريكيا معاقبة موظف رفض حرق وثائق الوزارة.

في الصفحة 282 يخبر الوزير الدكتور (أوشالم) وهو أحد الخبراء الزراعيين العاملين لدى سلطة التحالف بأن المزارع في منطقة الرضوانية التي تحتوي على كافة أصناف النخيل معرضة للجفاف... إلى آخره. يذهب الوزير صاحب السيرة الذاتية إلى بساتين النخيل حيث تسمى بمتحف النخيل إذ تحتوي على كل أنواع النخيل في العراق وهي من بساتين رئيس النظام السابق فيجد بأن أشجار النخيل اليانعة والنادرة والكثيرة قد قطعت من سيقانها وجمع بعضها فوق البعض الآخر! هو مشهد مخيف لموت آخر غير الموت البشري. واضح أن الدكتور أوشالم هو يهودي يعمل مستشارا للوزارة حيث لكل وزارة مستشار من قوات التحالف. هذا مؤشر على وعي الانتقام .. لماذا؟ هل هو انتقام السبي البابلي (537 قبل الميلاد)؟

أحداث كثيرة يوردها الوزير تتعلق بالفساد والنهب المنظم والذي تقوده قوات التحالف. عقود بعشرات ومئات الملايين لتزويد الوزارة بالأسمدة الكيمائية. مستندات عن وصول شاحنات محملة بالمواد الكيميائية ولكن الشاحنات لم تصل ولا وجود لها أساسا مع وجود مستندات تدلل على دخولها الحدود العراقية وهي لم تصل الحدود أصلا. هذه الأحداث التي يوردها صاحب السيرة في الفترة التي عاشها وزيرا للزراعة تلقي الضوء على حقبة صعبة ومعقدة وتم تعقيدها من قبل قوات التحالف حيث خلطت الأوراق وبات من الصعب إعادة ترتيبها سوى بحركة جذرية ضمن برنامج معد مسبقا .. برنامج وطني ينقذ العراق مما فيه ومما هو عليه.

كتاب الدكتور عبد الأمير رحيمه العبود .. سيرة ذاتية ممتعة نرى من خلالها العراق وطنا مذ كان يعيش حياة بسيطة وحميمة وحنونة لحين سادته الفوضى عندما لعبت الأحزاب والتيارات والنزوات فعلتها ووجهت من قبل قوى لا تريد الخير للوطن العراقي.

كتاب يقرأ بمتعة سيما إذا ما تزامنت مشاعر الكاتب مع مشاعر المتلقي لتشكل تسجيلا لأكثر من نصف قرن من الزمان من تأريخ وطن اسمه العراق أتمنى أن لا تسبقه كلمة (كان) حيث مؤشرات الواقع ومؤشرات السيرة الذاتية للكاتب تلقي بمخاوفها على غمامة الحقيقة الماثلة في مساحة الوطن العراقي.

- سينمائي عراقي مقيم في هولندا sununu@wanadoo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة