Culture Magazine Monday  30/07/2007 G Issue 209
فضاءات
الأثنين 16 ,رجب 1428   العدد  209
 

ذات العواد الفكرية وإبدالاتها «5-5»
د. صالح زيّاد

 

 

2-4 الرياضي - العسكري:

قد نقول إنّ هناك علاقة اختلاف في التداعي الذي يفرق بين هاتين الشخصيتين في جهة اللعب، وما يتصل به من الانطلاق والحرية لدى الرياضة والرياضيين، وفي جهة الانضباط والجدية والصرامة لدى العسكري وما يتداعى بنا إليه من القيد والسجن والعقوبة.. إلخ. وبقدر ما نبتهج للتداعيات الأولى فإنّ التداعيات الأخرى تثير النفور وتوجب الانقباض. لكن حضور هاتين الشخصيتين - لدى العواد - يلفتنا إلى صفات التشابه بينهما وعلاقات القربى، وهي علاقات تؤول إلى التصالح من وجهة إيجابية، أي من الوجهة المحمودة فيهما معاً، بما يجعلهما، من خلال الرغبة التي تجمعهما في اتجاه واحد، ذاتاً نصية في مؤلفات العواد تمثل رغبته هو، ومن ثم تؤول إليها ذاته الفكرية والكتابية، وهي - كأيّ فكر أو كتابة - كينونة حلم واشتهاء، لا مبرر للفكر أو الكتابة بغيرهما.

إنّ حديث العواد عن الرياضي، والإشارات الدالة عليه، يحضر في مقام الرغبة في التسامح والقوة، والدعوة إلى الحيوية والجرأة والعقل. أمّا حديثه عن العسكري، والإشارات الدالة عليه، فيحضر في مقام الرغبة في الطاعة والانضباط والتخطيط والسببية والمعيارية. وبذلك يغدو العسكري والرياضي وجهين لذات واحدة تنفر من التعصُّب والضعف والغباء، بقدر ما تكره العصيان والفوضى والعشوائية. وهذا النفور هو قسيم تلك الرغبة وظهيرها في الدلالة على ذات العواد، تماماً كما هو في الدلالة على كلٍّ من الرياضي والعسكري.

يتحدث العواد عن روح الرياضيين، فيصفها بأنّها (واسعة متسامحة)، وعن الخلق الرياضي فيصفه ب(الحليم المرن المهذب). ويعلن أنّ التقدير للرياضة هو سلوك حضاري يطابق نظرة الأمم المتحضرة كلها إلى هذا الفن الجميل، أي النظر إليه بوصفه من ضروريات الأشياء لا من كمالياتها؛ لأنّهم (يرون أن الألعاب الرياضية الصحيحة الجادة المنظمة تحمل في أطوائها تدريباً يعود صلاحه على النفس والعقل من طريق غير مباشر مثلما يعود صلاحه على الجسد من طريق مباشر).

وتأخذ صفات النشاط واللياقة والصحة، المستمدة من السلوك الرياضي، حماساً - لدى العواد - بالدلالة عليها وبها في سياقات المقارنة والموازنة التي تستحضر دوال المرض والتخلُّف والكسل، فيقول: (إنّ فقر الدم، في علم الصحة، يشبهه فقر الفكر في أدمغة الكاتبين في علم الأدب) و(الانطلاق الفكري، وحرية التعبير هما الكريات البيضاء والحمراء في دم الإنسان). وشيوع نماذج التقليد ونصوص الاتباع هي المشار إليه في قوله: (تلك الأمراض والسموم وتلك الجراثيم والميكروبات والأوبئة). والميل إلى التمرينات الجسدية وطلب القوة - يقول - هو (من دوافع النفس قبل أن يكون من دوافع الجسد... وربما رأينا العجاف والضعاف في أمم ناهضة تواقة إلى الكمال، وكأنّما نفوسهم تستحث أجسادهم إلى أكبر مما تطيقه من النشاط والمرح).

وكما ترتبط الرياضة بالحركة والحيوية والتوثب، فإنّها دال من دوال الشباب، تلك الكلمة الأثيرة لدى العواد، والتي يصف بها مجموعته الأدبية (الناشئة المتطلعة بعين الأمل إلى ما في هذه الحياة من متع فكرية وغايات اجتماعية ومذاهب أدبية وثقافة علمية). وكثيراً ما يذكر (أدب الشباب) و(حماسة الشباب) و (قوة الشباب) و (عزائمهم) و (صفاء أذهانهم) وإيمانهم برسالة الأدب والنقد في النهضة والإصلاح. وهو القدر نفسه - تقريباً - الذي تتردّد به أو في سياقه صفة النشاط واللياقة، حين يصف - مثلاً - المصلحين ب(النشيطين) أو (الناشطين) أو يحدثنا عن دور الأدب بأنّه: (يرفع درجة تفكير الأمة ويجدد فيها نشاط النزعة إلى النهوض). أو أن (الشعر يرفع من شعور الأُمّة إلى مستوى راقٍ من اللياقة).

وإذا ما تحدث العواد عن العسكري وروح الجندية، فإنّ (الطاعة العسكرية) تأتي امتيازاً لمعنى الانضباط الذي يحيل الشباب والنشاط والتدفُّق الحيوي في الرياضة إلى فاعلية بناء والتزام، فالعسكري - لديه - رياضي، مثلما أن الرياضي عسكري بمعنى ما. ولهذا يقول مخاطباً فريق النادي الأهلي بجدة: (إنّ طاعة اللاعب الرياضي للمدرب وللحكم، وللقانون الرياضي العام الدولي، ولقانون الفريق المحلي، إنّما هي كطاعة الكشاف لزعيم المخيم ولقائد الفرقة ولتعاليم لورد بادن باول. بل هي كطاعة الجندي المقاتل في المعركة للجيش، وللنظام العسكري الذي يحفظ التوازن بين حرية الأقدام وخلق اللامبالاة الذي قد يخلقه الغرور بين جنود القتال).

هذه الطاعة العسكرية هي الوجه الآخر للحتمية السببية، ولمعيارية العلم وقاعديته، بقدر ما هي دليل الانضباط والنظام والتخطيط، الذي يؤول إليه معنى الالتزام الفكري والسلوكي، مثلما يؤول إليه تبجيل العلم بوصفه وعياً عقلانياً منضبطاً تتكشف به مغاليق الكون والتاريخ، وتنبني به وعليه النهضة والتقدم. فالتمرُّد على الطاعة العسكرية في غزوة أحد، هو - في تحليل العواد - سبب الهزيمة، وهو حساب عقلاني يؤكد منطق العلل والحسابات في مدار فيزيقي. وينبني على ذلك أن يصف العواد العسكرية بأنّها (علم). ولا تنفصل هذه الرؤية - عند العواد - عن أن يقول: (نحن جنود) في وصفه لأداء المثقفين للرسالة الاجتماعية، أو يقول: (المواطن - كل مواطن - يشرك الجندي بروحه، وقلبه، وعقله، وثقته، وعونه) أو يعرض لطائفة من الوقائع السلوكية ك(الجعجعة) و (التضليل) و(التشكك) وما تؤثر به في الغرائز من استنامة، وتواكل، وتدابر اجتماعي، ليخلص - بعدئذ - إلى أن نتيجتها: (تذويب روح التجند والتكتل والخبرة والتعاون، وخلو المجموعة الكبيرة من معنى (الجندية) الصحيح).

ولا شك أنّ هذه المعاني التي تتجلّى في وصف العواد للعسكري والرياضي، أو في الوصف بهما، تلتقي مع صفات ووقائع كثيرة في شخصية العواد وفكره ومؤلفاته تلخصها الدلالة المزدوجة للعسكري - الرياضي، وتكشف بها عن ذات للعواد تتجسّد بها الرغبة التي تمثلها ذات العسكري وذات الرياضي والنفور الذي تصنعانه.

3- خاتمة:

تجتمع الإبدالات الأربعة لذات العواد في الإحالة على مصادر فكرية وثقافية مختلفة، فيها من فلسفة النقد والتغيير، ومن الخطاب الإصلاحي الإسلامي، ومن ثقافة الالتزام الاجتماعي والوجودي، بقدر ما فيها من حماس القومية العربية وآفاق التنوير الأوروبي. وفيها من نيتشة وكانت، ومن محمد عبده والأفغاني والكواكبي والريحاني، بقدر ما فيها من جبران والعقاد وطه حسين. وسواء كان دليلنا على تلك المصادر زاوية الرؤية ومنظورها في فكر العواد أو موقفه، أو اقتباس العواد وشواهده، أو تبجيله وثناءه، فإنّ النتيجة تفضي بنا إلى سياق فكري ذي شمول، لم يبتدئه العواد، وإنّما اندرج فيه كما اندرج مفكرو النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر.

إنّ دعوة العواد - مثلاً - إلى أن يقرأ علماء الدين محمد عبده ، لا تنفصل عن إعلانه مراراً دعوة الإسلام إلى العقلانية والإنسانية وإلغاء العبودية للبشر والأشياء. وأنه نقل الناس من العصبية والأنانية حتى أصبح كل من دان بالإسلام أليفاً ودوداً، وأنّ الإسلام (دعا إلى كل فكرة آمنت بها الدنيا، ولو أخيراً، في مختلف أممها فصاغتها في تعابير حديثة سادت على ألسنة ساستها ومفكريها كعناوين أو كشعارات أو كدوافع للتقدم والتماسك والنفع المشترك) وهو الوجه الموازي - تماماً - لبحث العواد عن مقاصد الشعائر والأحكام الدينية، وربطها بالمدار الإنساني أو الاجتماعي أو الوطني. فمؤدى ذلك هو البحث عن قواعد التقدم والإصلاح بالدين وفيه، لاختصار الطريق على العامة، ولكسر المرآة الفكرية المغلقة على ذاتية التخلف والانهزام، ومواجهة الحصار والهجوم على العواد والفكر الجديد بالمديح الديني للخواطر، في مثل قول أحمد الغزاوي: (إنّها من وحي الله المنزل) أو قول عبد الوهاب آشي الذي يقف إلى جانب العواد (نحن لا نريد إلاّ إصلاحاً دينياً وأدبياً يعم الوطن).

هذه القراءة الواسعة للدين، أتاحت امتداح التنوير الأوروبي وإعلاءه، واتخاذه نموذج النهضة ومنظور التثمين للإرادة الإنسانية، والعقل والحرية، فكان مديح العواد لعقول الغربيين وانكبابهم على البحث والبناء والعمل هو الوجه الآخر لهجائه التخلف والتوحش والطفولة ولتحاشيه الدهماء، وهو الطريق الذي قاده إلى إعلاء نيتشة واستمداده منه قبسات عديدة عن إرادة القوة، وإرادة الحياة، وأن نصنع التاريخ بأيدينا، فقد (أقبل السوبرمان). مثلما استمد من كانت فكرة (الواقع المبني) وأن (أشكال الفهم هي التي تؤلف النظام الظاهر للأشياء). وذلك في الاتجاه نفسه الذي وجد في فردية الوجودية ما يعلي من قيمة المسؤولية، وفي العدالة الاجتماعية ما يضاعف من مدلول الواجب ومن عقيدة الالتزام.

ولا شك أنّ التأكيد على المعنى والحق الإنساني هو الوجه الآخر للقوة، قوة الزعيم والرجل والعسكري والرياضي، في الاستمداد من خطاب الإصلاح الديني العربي ومن فكر التنوير الأوروبي، خصوصاً في تجليات القوة ورغبتها التي انتهت بحلم (السوبرمان) عند نيتشة، وهو السياق الذي يهمش العامة، فلا سبيل للارتقاء بهم وأَطْرِهم على أسباب التقدم والنور - كما تجلى في خطاب النهضة - سوى (المستبد العادل). وهو منظور يتلاقح في زمن العواد - تحديداً - مع راهن عربي مشحون بفكرة القومية والتحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية... إلخ. وتاريخ صنعته قوة الزعامة وبريقها وثقافتها الذكورية.

والنتيجة - إذن - تضعنا بإزاء قامة فكرية تتجسّد فيها ملامح خطاب النهضة العربية، بما يحمله من حماس للتقدم والوحدة والمعاني الحضارية والإنسانية، وتثمين للعقل والحرية وإرادة الحياة؛ لكن بالاتجاه الذي لم يكف فيه هذا الخطاب عن توليد الأسطورة واللا معقول تجاه الزعيم والرجل - مثلاً - أو تجاه القومية في مدارها الشوفيني، وخطاب العواد - للحقيقة - ينضح بعنصرية (مؤسفة!) تجاه مواطنه عبد القدوس الأنصاري وتجاه كافور الأخشيدي على سبيل المثال. فضلاً عن المدار النخبوي الذي أغلقه خطاب العواد وزملائه على ذواتهم، وتصورهم أنّ النهضة والتقدم والحرية والعقلانية ...إلخ طريق محدد سلفاً وبمنظور شمولي وإطلاقي، وهي السوءات ذاتها التي وقعت فيها التصورات النظرية لواقع التنوير الأوروبي، وأعادها بقدر مشابه خطاب النهضة العربية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة