Culture Magazine Monday  30/07/2007 G Issue 209
ذاكرة
الأثنين 16 ,رجب 1428   العدد  209
 
(المتنبي بين قوّتين)
عبد الله أحمد الغصن*

 

 

ويُقصد بتلك القوة قوة في الفكرة، وقوة في الأسلوب.. فالشخص حينما يأتي بأفكار جديدة وصحيحة يُعتبر مفكراً.. وحينما يأتي بشعر يثقله الشعور والأحساس يُسمى شاعراً.

المتنبي بين الشاعرية والفكرية

هل المتنبي مفكر؟ هل تنطبق هذه التسمية عليه؟ وهل هي سبب تفوقه؟.. أم أنه يهتم بالشعر ولا شيء غير الشعر، لكن يعتريه ما يعتري الشعراء من فكرة جميلة ومعنى رائع؟

والحق يُقال إن المتنبي مفكر أكبر من كونه شاعراً، وشاعر أكبر من كونه مفكراً.. والتناقض هنا هو ما عوّدنا عليه.. فالمتنبي ليس كغيره من الشعراء الذين يعجبك فيهم الحبك وسلاسة الأسلوب وعذوبة الألفاظ فحسب؛ بل تجد نفسك تعيش في شعور اللا شعور من سماعك بيتاً، أو كلمة لها أبعاد كثيرة بما تعكس واقعك العلمي المعرفي؛ بل بما تناقضه أشد النقيض، وربما اندهشت ولا أريد أن أقول بأنه جمع بين نقيضين لأن هذا محال على حد, النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان إلا أنك تشاهد أنه كسر البعد العرفي المنطقي لهذين النقيضين وقرّب بينهما حتى يخيّل لك أنه من المترادفات.. وليس الإعجاب به حديث عهد أو مقصوراً ومحصوراً على أدب تلك الفئة (العربية)، وإنما الغرب قد نالوا من جزيل كرمه وبديع معرفته وهاموا بأفكاره.. وهذا ما يدل على أنه مفكر, إذ الغرب لا يهتم بالنسق الوزني اهتمامنا به، وما يهمهم هو الفكرة فمن هنا هو مفكر.

فهذا دانتي dantyالإيطالي وهو ممن صُنف من أنصار الكلاسيكية الإيطالية؛ بل من روادها وتعني هذه الجملة أنه من كبار الأدباء والمفكرين الذين تُدرس مؤلفاتهم.. إلا أنه أُغرم لا شعورياً ببعض فكر المتنبي، لكن التفوق للمتنبي لا لأنه الأسبق أو دانتي استقى بفكر المتنبي.

وعلى أية حال سواء استفاد منه أو لا، ما يهمنا هو أنهما يمثلان عناصر أساسية في الأدب هنا وهناك، وكل منهما قد تطرق لعدة أفكار:

فدانتيdanty الإيطالي كان يقول: (إن الذكي يعيش بجنته في جحيم بينما الغبي يعيش جحيمه في جنة).. ولا أود أن أقول إن الفكرة أخذها من المتنبي لكن المتنبي له الريادة والجمال حيث يقول:

===========================

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ

===========================

فالفكرة واحدة واللغة تختلف، وهنا ليس مجال مقارنات أدبية.. وعوداً على بدء فالمتنبي استطاع أن يقرّب أبعاد الأضداد حيث يقول:

===========================

إذا غدرت حسناء وفّت بعهدها

فمن عهدها ألا يدوم لها عهد

===========================

فالغدر والوفاء بالعهد هما من الأشياء المضادة لبعضهما، ولا جمع بين نقيضين إلا أنه استطاع أن يُقرِب التباين فسمّى الغدر الذي هو نقيض العهد وفاء.. لأنه على حد فكره أن من معاني المرأة الغدر وهي صفة ملازمة على حد قوله.. وهذا طبعاً مخالف للصحة فالأصل في المرأة الوفاء والأصل بقاء الأصل.

وما يهمنا هنا هو نوع الجمع الذي أصله تفريق فجمع المفرّق في قالب شعري ونسق لغوي بلاغي جميل ولو تطرقنا لفكرة أخرى، ومنطلقاً من مقولة (المعنى في بطن الشاعر) وقولي بأن المتنبي يُعير الفكرة كبير اهتمام ويقيم لها الأولوية.. فالنقاد حينما عابوا قول المتنبي بوصفه للجبان: (إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً).. قالوا: غير شيء لا يُرى.. أقول المتنبي هنا وصف لنا الجبان بكل ما تحمل أبعاد تلك الكلمة.. فهو يخاف من لا شيء ويعتقد أنه شيء، ويخيّل له أن هنا شيئاً موحشاً، فاللا شيء عند الجبان ربما أخوف من الشيء لأنه عنده من علم المجهول وهو أخوف ما يخاف منه فيكون المتنبي قد نجح وأبدع في هذه الصورة.

ومن يمعن النظر في الشعر الحديث يلاحظ أن أغلب الأبيات التي أعجب الناس بها هي من فكر ونوادر المتنبي الذي استقى الشاعر منه.. ومن يعيد البصر كرتين إلى الشعر العامي الذي شاع أمره، نجد أنهم يجادلونك في فكرة جميلة ومن خلالها يريدون أن يعلوا من شأن الشعر العامي وما عرفوا أن الفكرة للمتنبي.

فإذا كانت فكرة أُعجبتم بها فكيف بوزنٍ وقافيةٍ سليمين ومعنى وفكرة وصورة على أتم ما تحمل هذه الألفاظ من مدلولات.

ومن المعروف أن النقد الطبعي الفطري يشترك فيه شريحة كبرى من الناس فالعامة حينما أعجبوا بفكرة هي حكم نقدي على هذا البيت.. ففي أكثر من نقاش عن الشعر العامي بين مؤيد ورافض وهي قضية أخذت مجراها منذ القدم إلا أنها عادت بحكم انتشار هذا النوع من الشعر بحكم الداعم المادي والإعلامي له فكثيراً ما نجد من المجالس التي تناقش عن هذا الأمر ومن هذه المجالس الأخوية وقفت معهم على غير قليل من الشعر العامي فلاحظت أن ما أعجبوا به هو أفكار سابقة طرقها أعلام الشعراء السابقون (شعراء الفصاحة) ثم انتشرت لجمالها وجودتها فليس عيب أن تُراج مثل هذه الأفكار لكن الأمر الذي لا يُراد حينما يعتقدون أن هذه الفكرة ولادة هذا الزمن وإلا ليس هناك ملامة فالمعنى جميل متكرر فهذا الجاحظ يقول: (ولا يعلم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه مصيب تام، وفي معنى غريب عجيب، أو في معنى شريف كريم، أو بديع مخترع، إلا وكل من جاء من الشعراء من بعده أو معه إن هو لم يعد على لفظه فيسرق بعضه أو يدعيه بأسره، فإنه لا يدع أن يستعين بالمعنى، ويجعل نفسه شريكاً منه...).. فالجمال مطلوب ومرغوب والشاعر يسعى لزخرفة أبياته إما عن طريق اللفظ أو المعنى.. ونحن مقتصرون هنا عن المعنى والفكرة بحكم أن الشعر العامي له معناه دون لفظه كموقف أدبي.. فالمحاكاة هي نواة الانطلاق، والمعارضات شاعت وانتشرت بين شعراء لهم حضورهم الأدبي، والسرقات تعدت كونها ظاهرة فلا تجد عالماً أدبياً إلا وله رأي فيها كابن سلام وابن قتيبة والجاحظ... ولا عيب فالتقدم الأدبي والصناعي والعسكري قائم على التقليد.

فالأدب الرومي قوي عوده حينما اكتسح الروم معالم اليونان وبدؤوا ينهلون من معارفهم، وعرفوا أن المحاكاة هي أسرع طريقة لنشء جيل تتأصل فيه هذه الأفكار.. ومن هنا نشاهد الكاتب الروماني كابليان يدعو بني قومه إلى المحاكاة ويبين لهم معناها بل وضع لها شروطاً وما ذاك إلا لجدوى هذه الفكرة.. بل جزم بأنها أصل من أصول الفن وأقام لها تعريفاً وهو: (السير على مناهج المتقدمين فهي مبدأ من مبادئ الفن).. وكل ما أردت أن أقوله هو أن الأفكار التي لاقت إعجاب الجمهور في الشعر العامي هي أفكار مطروقة, وبالأخص عند المتنبي بل حتى الأغراض أقصد الغرض الموضوعي الفكري مكرر كاعتزاز الشاعر بنفسه وأنه الأول ولا يقبل إلا ذاك المكان.. فالمتنبي يقول:

===========================

إذا غامرت في شرف مرومٍ

فلا تقنع بما دون النجوم

===========================

وقوله:

===========================

ذو المعالي فليعلو من تعالى

هكذا هكذا وإلا فلا لا

===========================

فهذان البيتان راجا في الشعر العامي كفكرة فلا نسير زمناً طويلاً إلا والمتنبي أمامنا وهذا ما يميز الشعر الفصيح بأنه باقٍ ما بقيت الأمم إلا أن - يشاء الله -.

===========================

كم قد قتلت وكم قد مت عندكم

ثم انتفضت وزال القبر والكفن

قد كان شاهد قولي قبل قولهم

جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا

===========================

ياله من معنى عجيب هو ميت لكن الذين استشهدوا بشعره وبأفكاره هم أحيوه بل وأماتوا أنفسهم لأنهم جعلوا معه مقارنة ثم ماتوا قبل من دفنوا.

والاقتباس ليس عيباً وهو شائع في أدبنا منذ القدم، حينما يُعجب الشاعر بفكرة أو صورة بديعية فيقتبسها في قصيدته ويكسوها زخرفة بإبداعه.

===========================

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جرّاها ويختصم

===========================

aa042@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة