الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 30th August,2004 العدد : 74

الأثنين 14 ,رجب 1425

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
الصحافي..السّاخر!!
بقلم/علوي طه الصافي

السخرية في الكتابة فن صعب، وقليل هم الذين يتقنونه في الشرق، أو في الغرب، لأنه يشتمل على موهبتين، او ملكتين، موهبة او ملكة القدرة على الكتابة بعامة، وهذه يتقنها الكثيرون مما يجعل ضرب أمثلة مسألة غير واردة، لأنها أساس و(أسس) غيرها من الفنون، والأجناس الكتابية، وفي غيابها، أو بدونها تغيب الفنون والأجناس الكتابية، وهذا افتراض مستحيل، وخروج غاشم عن واقع الحقيقة التاريخية، لأن الإنسان عرف أبجديات الكتابة قبل ان يكتشف (الصينيون) الحبر، هذا الاكتشاف المهم والكبير في التاريخ البشري الذي شكل منعطفاً مؤثراً في عملية (التدوين)، و(التاريخ المدون).
والموهبة، أو الملكة الأخرى هي (فن السخرية)، وهو فن صعب كما أسلفنا، وقليل هم الذين اتقنوه، وبرعوا فيه من خلال كتاباتهم، ولقلتهم يمكننا ان نشير الى ان بعض الأسماء، في مشرقنا العربي اشتهر في مصر كل من (البشري، والمازني، وزكي مبارك، ومحمود السعدني.. وغيرهم ممن لا تحرضنا اسماؤهم) وفي لبنان (مارون عبودة.. وبالتأكيد هناك غيره) وفي السعودية اشتهر (علي محمد العمير، ولقمان يونس، ومشعل السديري)، محور موضوعنا، حسب علمنا.
أما في الغرب فإن أشهر ساخرين عرفناهما هما (مارك توين الأمريكي، وبرنارد شو الانجليزي).
ونحن هنا لا نحصر اسماء الساخرين من الكتّاب، لان مثل هذا الحصر يتطلب بحثاً، أو دراسة طويلة مستقلة هي ليست من طبيعة هذه السلسلة من الحلقات التي يعنيها الاكتفاء بالاشارة منها الى السردية.
وصديقنا العزيز (مشعل محمد السديري) كان يفترض ان يكتب برقة الفرشاة بحكم تخصصه في الرسم التشكيلي في ايطاليا، وكان في امكانه ان يكون واحداً من رسامي المملكة التشكيليين البارزين.
لكن يبدو أن تركيبتيه النفسية والعقلية أخذتا صفتهما من صفات الغزلان الشاردة في البوادي والصحراء فتمردتا على الريشة الرقيقة ليكتب ساخراً بسكين حادة، توجع لكنها لا تسيل الدماء، لأن الله خلقه كارها للحرب ضعيفاً الى حد يشيح بوجهه، وينفر من دماء دجاجة تذبح، أو عصفور (تمغط) رقبته، أو خروف ينحر بسبب، أو دون سبب، بحق، او بغير حق، فهو يحب الحياة والسعادة للبشر والحيوان والشجر بعامة، والزهور والعصافير بخاصة.
في بداية الثمانينيات الهجرية كانت من بين صفحات جريدة (عكاظ) التي كان رئيس تحريرها يوم ذاك الصديق عبدالله عمر خياط، صفحة اطلقوا عليها (الصفحة السابعة) تحرر من قبل عدد من العاملين في تحرير الجريدة في كل يوم محرر، وهي صفحة متنوعة تستطيع ان تطلق عليها (كشكول).
كان للصديق العزيز عبدالله الجفري الذي كان كل شيء في تحرير الجريدة وإخراجها الفني، كانت له صفحة في الاسبوع تستقطب العديد من الكتاب والكاتبات باسمائهم الصريحة، ومنهم اسماء مستعارة واعترف انني كنت من حين لآخر أحد كتابها.
كان اسم (مشعل السديري) من الاسماء التي لفتت نظري، فلم أكد أعرف ان كاتباً ما عرف من اسرته.. كنت في الرياض، وقد اعتدت زيارة الصديق (الجفري) في مكتبه بالجريدة في طريق ميناء جدة، قبل ان تنتقل فيما بعد الى حي (العمارية).
وفي مكتب الأخ (الجفري) كان لقائي الأول بمشعل، كان شاباً نحيل الجسم كجسمي، له عينا صقر، قليل الكلام إلا في حدود.. وحين تكررت اللقاءات عرفت عنه أشياء كثيرة منها وأهمها ان الشاعر الكبير النبطي ذائع الصيت (محمد أحمد السديري) هو والده، وان الشاعر الكبير النبطي (خالد أحمد السديري) هو عمه.. إذن لا غرابة ان يكون صديقنا مشعل السديري كاتباً إذا كانت هذه نشأته، او بيئته الأولى، ولا أعلم فيما إذا قال الشعر النبطي كوالده وعمه؟ لكنه يبدو أنه خلق لعصر غير عصرهما فاتجه في البداية الى الإبداع الأدبي، إذ كان يكتب عن قضايا في مقتطعات قصيرة تتناسب و(الصفحة السابعة) التي لم تكن تنشر الكتابات المطولة.. وكان يكتب باللغة الفصيحة عكس ما لمسناه حين بدأ يكتب زاوية يومية في (عكاظ) بداية، ثم في (الشرق الأوسط) حالياً حيث أخذ يوظف العامية في مكانها المناسب، تعطي لما يكتبه (ابازير وتوابل) الهند، وشرق آسيا (الحرّاقة) التي تفتح شهية القارئ، وتجعله يفتح شفتيه لتظهر أسنانه البيضاء او المسوسة مبتسماً، وإذا كان خفيفاً يحركه أي شيء فيرفع عقيرته بالضحك عالياً حتى يظنه الجالس بجواره ان به مساً من الجن والعفاريت!!
فهو موظف المثل، والعبارة، والوصف العامية وبأغلب اللهجات المحلية التي يعرفها، وبعضها قد تغمض على القارئ العادي أما القارئ الحصيف فيعرفها من السياق.
وهو في كتابة زاويته اليومية المجمَّلة والمزركشة بسخريته يجبر القارئ رغم أنفه وأنا أحدهم ان يقرأها مرة ومرتين دون أن يشعر بالسأم والملل!!
وهو كاتب ساخر طارد للتثاؤب، وإذا لم يجد من وما يسخر منه سخر من نفسه، فهو كما قال عن نفسه مستفز بفتح الفاء ومستفز بكسر الفاء!!
وله طريقته في تعامله مع الآخرين، وبخاصة من يألفهم، ويحبهم، إذ يطلق عليهم أوصافاً ونعوتاً فيها كثير من الشراسة، أقول هذا من خلال تعامله معي حين يلقاني فاتقبلها منه بكل ود ورحابة صدر. ألم يقولوا (من حبك سبك)!!
وهو في صفاته ونعوته لا يقولها لكل من يعرفه، بل يقولها للتودد والتحبب لمن ترتاح إليه نفسه، ولمن تهش له مشاعره النبيلة الحضارية الراقية.
أذكر مرة حين ذهبت زائراً الى جدة دعانا الصديق الحميم (هاشم عبده هاشم) لتناول طعام الغداء في منزله عندما كان بطريق مكة، وبعد الغداء أصر الصديق مشعل السديري ان يوصلني بسيارته، ولما كان موقف السيارة في زقاق فكان على الصديق مشعل ان يرجع بسيارته الى الخلف حيث الشارع العام، لكن ما حصل ان خلف السيارة كانت توجد حفرة بيارة لم يتنبه لها الصديق مشعل فوقع احد (الكفرات) فيها، وكانت عميقة نوعاً، بحيث لم تستطع السيارة التحرك من مكانها، وأنه لابد من احضار (ونش) لنزعها رغم كل محاولاتنا بإخراجها، فعرض الصديق هاشم ان يوصلنا الاثنين بسيارته، مع استعدادي لاحضار (ونش) لنزعها، فقد كان الجو حاراً وقتها والعرق يبلل اثوابنا.
ولم يفت الموقف لسان الصديق مشعل الساخر، فقد علق ونحن في سيارة الصديق هاشم ان السبب كان ابليس علوي!! فرددت على سخريته قائلاً: كلامك صحيح لأن أبليسك يا أخ مشعل لا يظهر إلا في الليل كالفخافيش!! وضحكنا جميعاً.
ورغم وجود مواقف أخرى مع الصديق الحبيب مشعل السديري إلا ان مساحة النشر تفرض علينا الاكفتاء بما ذكرناه، وأخيراً سننقل للقارئ واحدة من زواياه الصحفية الساخرة لقصرها، وكان عنوانها (ضاربها صرمة) يقول فيها:
قيل ان المرء يحتاج في حياته الى ثلاثة أمور لتكتمل سعادته. اولاً: الى شخص يحبه، وثانياً: الى عمل يؤديه، وثالثاً: الى أمل يرجوه.
أصدقكم القول: وما أكثر ما كذبت عليكم.. لكنني اليوم اصدقكم القول فعلا ولأنني أردت لأول مرة في حياتي ان أظهر بمظهر الإنسان السوي، الحائز للدرجات العالية من الوقار والاحترام والتجبيل لا التدجيل.
اريد فعلاً أن أكون إنساناً (على مستوى) يشار له بالبنان.
وأصدقكم القول للمرة الثانية انني بحثت عن إنسان يحبني بدرجة (لا تصدق) لكنني للأسف وجدت أناساً كثيرين يحبونني بدرجة (تصدق) فقط، وعندما أتضايق منهم اصرخ فيهم قائلاً: احبوني بجنون أيها الغجر، اخسفوا الأرض من اجلي، انتحروا، فيردون عليّ بكل برود: أنت ما تستاهل.
ومن كلامهم البارد ذلك، أعيد النظر في كل صفاتي وقدراتي وطاقاتي وعضلاتي وملامحي وكل (خليلاتي) أي خلال وجهي فاكتشف انه من المستحيل ان يحبني إنسان بطريقة لا تصدق، لان طبيعتي بالفعل غلط، فعدم اتزاني، وغريب أطواري، ولهفتي الجامحة على قلب عالي الدنيا على سافلها، كل تلك الصفات (الرومانسية) التي أتحلى بها تجعل مني انساناً مشوبهاً؟
المشكلة التي تكاد تفتك بوجداني انني لا اقبل الحب التقليدي الغبي المثلج المحنط، ولو ان كل ملكات جمال العالم وقفن لي كحرس شرف، لمررت من أمامهن دون ان انظر اليهن، او حتى اقرئهن السلام يعني وباختصار أنا إنسان ضاربها (صرمة)!! أما عن العمل الذي أؤديه فأعمال كثيرة، بعضها يحكى وبعضها لا يحكى، وهي كلها ليس لها صلة (برأس مال) كارل ماركس، ولا (بثروة أمم) آدم سميث، ولا ببورصة (وول ستريت، ولا بكل عولمة المستقبل، ولا بالطالع والنازل وانما لها فقط، بضياع العمر حباً.
وصدقوني انني في هذه الناحية أكثر الناس ثراء، وأملك من المليارات ما لا تملكه الخزنية الأمريكية، وأملك من الدمع أيضاً ما لا تملكه جميع أعين البشر، لأن حبي ولد يتيماً بدون اب ولا أم.
ولو سألتموني عن الأمل الذي ارجوه فانني بكل أسى أقول لكم: انني مثخن بآلام الجراح، فما أكثر آمالي، وما أقل بركتها، وما أكثر احلامي وما أفزعها وما أكثر تطلعاتي وما أعماها، وما أكثر شموسي وما أحلكها، وما أكثر ضحكاتي وما أبكاها، وما أكثر ما يعتمل في قلبي من الحب وما أقساه، ما أكثر ما حظيت الدنيا بكل اعضائي وما أكثر ما أدارت لي هي ظهرها وكأنها لا تعرفني، وما أكثر ما تمنيت ان أكون صديقاً وشقيقاً لكل من قابلت من الناس في الشوارع، وما أكثر ما واجهت من العبوس والشتم واللطم من كل اشباه البشر، لكل ذلك ما زلت مع الأسف انساناً يحب ويعمل ويأمل*.
وقد اخترنا هذه الزاوية لا لأنها تمثل مضامين عطاء أسلوبه الساخر، وإنما اخترناها لأنها الأقصر المناسبة مساحة للنشر.


*(جريدة الشرق الاوسط)
alaui@alsafi.com
ص.ب 7967 الرياض 11472

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved