الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 31th March,2003 العدد : 4

الأثنين 28 ,محرم 1424

أشباح السراب.. بكائية على أطلال الزمن الجمي3- 3
عبد الله الماجد
في قصة «محيميد» وهي تنضم الى تلك القصص المهمة في هذه المجموعة، لاكتمال عناصرها الفنية، يفقد «محيميد» حياته بعد ان سقط وهو يخرف النخلة كان كل شيء في المزرعة، يعاند الظروف القاسية التي تهدد المزرعة بالموات، يبعث الحياة والنماء فيها، لا يكترث بالاخطار فهو يقتل «حية» كانت متلبدة في «شرب القت» «البرسيم» ويعالج اعطال المكينة، ويسقي النخيل ويخرفها. وبينما هو يمني نفسه برؤية اسرته التي اغترب عنها منذ سنة وخصوصاً ابنته ذات السنتين. هاهو ذا يموت.، حيث تولد الحياة، يأتي الموت كما يعبر عن ذلك فيلسوف الجدلية هيجل ان في موت «محيميد» رمزاً لموت المزارع وحياة الريف الجميلة، التي تؤطر حياة المدن بعبق الماضي وتواصل حياة السنين الجميلة، حيث يكون الريف مصدراً للتواصل بين اهل المدن الذي هم اصلاً ينحدرون من القرى، وينتسبون لنسق حياتها مع تمدنهم الظاهري، ومن يعيش في وسط الجزيرة العربية يحس بوجيعة «عبدالله الناصر» حيث تتآكل القرى ويتبعثر الريف، ويضيع في سطوة المدن التي تزحف على تزحزف الحياة ووداعتها المتمثلة في حياة القرى، كما تتلبد هذه «الحية» في اشراب البرسيم، ان خطر المدن الزاحف على القرى هو هذه الحية المتلبدة المتربصة، وبينما يواجه «محيميد» هذا الخطر، بدأبه على بعث الحياة والنماء في المزرعة، وله للخطر القادم اليه هو نفسه يموت، ان في موته المأسوي، كما تموت الطيور التي يصطادها قناصها «عبيد» وهو احد الرموز لفناء الحياة الوادعة في الريف اذعاناً لموت الحياة في المزرعة، وموت القرى والريف، بل ان سقوطه في «البركة» بعد ان هوى جسده وهو في رأس النخلة، واختلاط دمه بمائها والرطب المتناثر الذي كان يخرفه من عذوق النخلة، كلها رموز الحياة والنماء التي امتزجت وتعانقت في الفناء، ثم ان جسده يطفو، لتتفجر تلك الرموز، هذا المعنى، يدل على انتهاء كل شيء، فلم يتشبث الجسد مثلاً بالنخلة، ويظل عالقاً بها رمزاً للانبعاث من جديد، لم يصطده صياد الطيور، وهو يصوب تجاه الطيور في اعالي النخيل، فتتشبث يداه بأعاسيب النخل او شماريخ «المقفزية» بل هوى جسده الذي كان هو الباعث للنماء والحياة في المزرعة، في القرية، في الريف، سيغيب الجسد في لحده، وستغيب برحيله الحياة والنماء في مزرعة «ابي راشد» سوف لن تكون هناك بعد ذلك «زنود» تبعث الحياة في المزرعة.
في هذه القصة، التي يحس القارئ فيها بنضج التجربة الفنية، سيدرك دون ان يعرف كاتبها عبدالله الناصر، بأن احد اولئك الاصلاء من اصحاب القرى التي كانت تتجسد فيها حياة المدن، دون ان تفقد سماتها الاصيلة، حينما كانت تقود الحياة في الجزيرة العربية، وتحرك مجرياتها السياسة العلمية والادبية في يوم من الايام كعاصمة لهذه البلاد. وقد اوقعها قدرها، ان تكون قريبة من المدينة التي ورثتها، فتصبح عاصمة متنامية بشكل مبهج، ومخيف، تزحف على قراها وتأكلها.
لقد استخدم الكاتب، كل عناصر القص الجميل باقتدار، ابتداء من رسم لوحة جميلة تخيلية، ندخل فيها معه الى المزرعة، وهذه السمة هي احدى سمات هذا الكاتب البارزة انه يكتب بفرشاة فنان تشكيلي متمكن من ادوات اللغة والتخيل، واذا كان هذا هو الحال، فانني لا اجد مبرراً لمحاولة الكاتب تفسير تفاصيل لوحته ومدلولاتها وتعابيره ونصوصه المحلية التي فيها غنى فني، يكفي لشرحها دون اللجوء الى شرحها في هوامش تفسر ذلك، فليس ذلك من مهمة الكاتب، بل ان نجاح الكاتب في ايصال تلك المدلولات والمعاني للقارئ، سيغني عن شرحها، ربما كان يدور في ذهن الكاتب، انه يكتب لقارئ عربي غريب عن تلك المصطلحات، وانا اخالفه في ذلك. فلقد يكون من السهل على القارئ. اي قارئ. ان يدرك معنى تلك المصطلحات في سياقها الفني الصادق. وعلى هذا الاعتبار، فانني لم اجد ما يبرر ان يكتب الكاتب كلمة «فنجال» التي ننطقها في منطقتنا بهذا النطق، ويستبدلها بالتعبير اللغوي «فنجان» وهكذا بقية الكلمات ذات الخصوصية، مهمة الكاتب ان يبدع في جو من الرحابة، والا يفكر كيف يفسر القارئ ما يكتبه، فتلك مهمة القارئ والناقد.
في قصة «في شركة الامل» يجسد الكاتب لوناً من ألوان الفساد الاداري، ويختار له اسهل هذه الالوان، واهمها في نفس الوقت، الا وهو الاختيار الامثل للكوادر الوظيفية، وشغل الوظائف بالمؤهلين المتخصصين لكل وظيفة تطابق تخصص شاغلها، ويكاد يكون هذا الداء، هو السمة المسيطرة على مجالات العمل الاداري في البلاد العربية جميعها، ولايزال تحقيق القول المعروف «الرجل المناسب في المكان المناسب» بعيد المنال. وبالرغم من صعوبة قيمة الموضوع، حينما يتم طرحه ليكون موضوعاً لقصة قصيرة، فان الكاتب استطاع ان يقولب موضوعه على قدر فني اقرب ما يكون الى فصل او مشهد مسرحي وبدءاً من الاسم الذي اختاره للشركة، ومروراً بالارقام التي اختارها بقصد او دون قصد، لعينات الموظفين، وهي في معظمها عدا واحد ارقام فردية، توحي بالعدمية بل ان ضخامة الارقام تشير الى تضخم وظيفي في الشركة. وحينما يدخل الموظف رقم «50» وهو الرقم الزوجي الوحيد. «عبدالرحمن ابو خالد» يقدم نفسه ووظيفته: « انا شاعر الشركة»» ليتفجر الموقف عن نوع من «الكوميدياء السوداء» ولم يستطع المفتش الذي جاء الى فرع الشركة، لبحث أوضاعه وتقديم تقرير من شأنه معالجة الخلل والتدني في زداء الشركة لأن رئيس الشركة يزيف الحقائق ويظهر الشركة بمظهر النجاح. لكن الكاتب، وهو يطرح هذه القضية كنموذج لفساد الاعمال في مؤسسات القطاعات العامة والخاصة، فانه يفجر قضية ادبية لا تقل عن ذلك وهي فساد الشعر والاتجار به.
ألم يقل عبدالرحمن «شاعر الشركة» الذي كان شغله لهذه الوظيفة ازدراء للوظيفة، وللشعر:
«بيت الشعر ابيعه بألف، واحياناً بألفين ريال، وثلاثة حسب وزن الشاري»
نعم.. لقد ضاع وزن الشعر..
تجسد قصيدة «سبع الليل» وهي خاتمة قصص هذه المجموعة واقعة فتح الرياض، التي اكتملت صباح يوم الخامس من شوال عام 1319هـ والحدث التاريخي، ذاته قصة قائمة بذاتها كما حدثت وجرت وقائعه، بل ان بعض المؤرخين ذهب الى انها اشبه ما تكون بتلك القصص السينمائية التي اكتملت لها عناصر البناء الدرامي،. وان بداياتها وتنامي احداثها كان بمثابة السيناريو الجاهز، وما على المخرج الا ان يصور الوقائع ليكتمل بعد ذلك عمل سينمائي كامل. فماذا يفعل الكاتب، وهو يكتب قصة قصيرة مكثفة عن حدث تاريخي بهذا الحجم لقد كان الهاجس الوطني وعاطفة الكاتب، هما النبرة العالية الطاغية في هذه القصة، التي تحولت الى قصيدة شعرية، اكتملت لها الصور الموحية ورموزها الشفافة، ومن تلك الصور النامية الموحية، التي لها ما يماثلها في الشعر العربي الحديث الذي بدأت على استدعائها، قول الكاتب في توصيف شخصية بطله:
«يضرب بعصاه تلال الرمل، كي تنشق، ليعبر هذا اليم الى العدوة الاخرى، لكن الرمل لا ينفلق، فالعصا، ليست هي العصا».
وفي هذا اشارة الى عصا النبي موسى عليه السلام، وعلى هذا النحو كان الشعراء يتجهون الى هذا المنحى كمعادل موضوعي، لإغناء التجربة الشعرية، ومنحها كثافة موضوعية، تستمدها من تلك الاشارات التراثية المنرسخة في وجدان المتلقي. لكن بطله ليس نبيا، وانما صاحب قضية، وبطل تاريخي من الواقع. ما بين تلك العصا وهذه العصا، هو التمازج في قوة الهدف.
ربما تطرح هذه القصة، منحى نقدياً جديراً بالتأمل، فالقصة من الناحية النظرية قد اكتملت لها عناصرها الفنية، لكنها من الناحية العملية، اي اختيار الموضوع، تصبح اقرب الى الشعر، فنحن بإزاء قصيدة منثورة، لكن الحدث يستعصي على القصة القصيرة التي تعتمد على الحدث الاحادي، الذي بيني القاص عليه بناءه، ويفجر بداخله احداثه، ومناحيه ونوازعه الانسانية ان موضوع القصة التي عالجها الكاتب، هو موضوع الشعر والرواية والملحمة وليس موضوعاً لقصة قصيرة، ولو ان الكاتب ألبس قصته لحمة حدث بعينه، لكان ذلك اقرب الى فنه الاثير القصة القصيرة، لقد حقق الكاتب هذه المعادلة بنجاح، في عدة قصص من هذه المجموعة، هي قصة «محيميد» «بيت العائلة» «الذيب» «عصفور الغضب» «ابو راشد» «شباش».
ان هذه المجموعة القصصية، قد آذنت بوضع اسم كاتبها، وبكل اقتدار، ضمن قادمة الموهوبين من كتاب القصة القصيرة العربية، لقد منحته معظم قصص هذه المجموعة، قواماً صلباً يقف متماسكاً ضمن الواقفين في محراب هذا الفن. وهو ما اثبته واعلن عن تطوره في مجموعته الجديدة «حصار الثلج» التي صدرت في العام الماضي.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved