الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 31th May,2004 العدد : 61

الأثنين 12 ,ربيع الثاني 1425

زوايا.....
ثقافة الطاعة..
وفشلها في إنجاب المبدعين
أمل عبدالله زاهد
تكرر معي كثيراً تسجيل شكوى يسطرها معلم ابني ذي تسع السنوات من نشاطه الزائد وحركته المستفيضة داخل الفصل، مع التنويه على أن الابن شديد الذكاء، متوقد الذهن، وسريع البديهة، وترفق الشكوى عادة بطلب المعلم أن نحاول إلزامه بالتقليل من حركته، والحد من نشاطه، والالتزام بالهدوء، والحرص على القواعد التي وضعت، والحدود التي شرعت لحرم الفصل الدراسي التي يجب أن يلتزم بها الطلاب.
والشيء الذي لا أنكره على المعلم على الإطلاق هو رغبته في المحافظة على هدوء الفصل، وانضباطه، وسير النظام فيه، حتى يتمكن المعلم من تمرير المعلومة وإيصالها للطلاب في مناخ يعمه الهدوء ويسوده السلام والالتزام. ولكن ما استنكره على هذا المعلم، وعلى معظم من يشارك في العملية التربوية التعليمية، هو إغفالهم لطبيعة الطفل الميالة للحركة، والتي تتوق إلى كسر القيود، وتحطيم أية قضبان قد تعيق من حركته، أو تحد من حريته، وعدم محاولتهم إشباع هذا الجانب عند الطلاب، وفشلهم في تفهم حاجات ومتطلبات الطفل في هذه المرحلة، وفرض صورة نمطية نموذجية للطالب المرضي عنه، وهو عادة الطالب الهادىء، المطيع المساير، والمدجن الذي لا يخرج على القوانين والأنظمة الموضوعة من المدرسة.
والحقيقة أننا في كثير من الأحيان، سواء في المنظومة التعليمية أو المنظومة الاجتماعية، نطالب الطفولة أن تلبس ثوباً لا تنتمي إليه، مغايراً لفطرتها، ومتجاهلاً لطبيعتها، ونحن بذلك نمتهن هذه الطفولة، ونحاول أن نكسوها بأقنعة من الزيف والخداع، تناقض وتعاكس أصلها الميال إلى الانطلاق والتحرر، الذي يسبح في كل الاتجاهات، ويعزف على كل الايقاعات، وكأننا نريد أن نفصل أطفالاً بمقاسات معينة ومواصفات محددة، فنشذب زوائدهم ونقصص ما نتأ من أطرافهم، حتى يوافقوا تلك الصورة التي رسمناها لهم، فإذا بنا نسلبهم طفولتهم، ونحرمهم من براءتها ونزقها وتلقائيتها، ونحبسهم داخل سياجات من الممنوعات والمحظورات فارضين عليهم الالتزام بقوانين محددة تحجزهم داخل أطر المسايرة الاجتماعية، فيعتادوا على لبس الأقنعة، وعلى الانسجام والتماهي مع ظاهرة خطيرة، وهي النفاق الاجتماعي، محاولين تكبيل ذلك الطفل الموجود في داخلهم، والذي يحاول التلصص، ويتوق إلى التحرر والانعتاق من سنين تفرض على عمره الحقيقي، ومن نضج مفروض عليه أن يتحلى به، وهو بعد لم يصل إلى مرحلته، ونطالبه بالقفز على سني عمره، وأن يتحول إلى شاب ناضج في جسد طفل صغير.
وغالباً ما يسقط الوالدان على أبنائهما الرغبات المكبوتة ويطالبونهم بتحقيق الأحلام المؤودة، ويصرون على أن يفرضوا عليهم أفكارهم ورؤاهم، ضاربين عرض الحائط بما يريده الأبناء حقاً، متناسين أنهم ينتمون إلى عوالم مختلفة. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الناس أشبه بزمانهم منهم بآبائهم)، كما يتحدث جبران خليل جبران عن الأبناء قائلا: (أنتم تستطيعون أن تعطوا أولادكم محبتكم، ولكنكم لا تستطيعون أن تلقنوهم أفكاركم، لأن لهم أفكارهم، وتستطيعون أن تقيموا المساكن لأبدانهم، لا لأرواحهم، لأن أرواحهم تسكن مساكن الغد الذي يمتنع عليكم حتى في أحلامكم، ولكم أن تكونوا مثلهم، وليس لكم أن تجعلوهم مثلكم، لأن الحياة لا تمشي القهقرى، ولا هي تتمهل مع الأمس)، كما أن المجتمع عادة يميل إلى تجاهل حقوق الأبناء، وما يتحتم على الوالدين أن يقدموه لهم، مسلطاً الضوء على حقوق الوالدين، وكأنما الحق يكون فقط بجانب من يمتلك السلطة، ومن يرجح ميزان القوة في كفته.
وثقافتنا تضخ في عروق الأبناء فيروس الطاعة العمياء، وثقافة الخنوع والخضوع والاستسلام من دون منحهم أية فرصة للحوار والإقناع والاقتناع، وبذلك تقمع روح التمرد والثورة الموجودة داخلهم، وتقتل ذاتيتهم وفرديتهم، وتتغافل عن الاختلافات التي وضعها الله سبحانه وتعالى في البشر، وبذلك نكبح جماح الروح الإبداعية التي يجب أن نؤجج نيرانها بدلاً من نطفئ جذوتها، فليس المهم أن نعلم أبناءنا كيف يقرأون ويكتبون، ولكن المهم أن نعلمهم كيف يفكرون.. كيف يحررون عقولهم ليتفكروا في الآفاق، وفي آيات الله في الكون وسننه في الخلق، كيف يقلبون الأمور تحت مجهر النقد والتحليل، وكيف ينظرون إلى عمق الأشياء بدلاً من النظر إلى ظواهرها وقشورها، وأن نجعل المنهج العلمي الذي يتعامل مع الأشياء بمنطق التجريب والاختبار هو أسلوب تفكيرهم، مؤكدين لهم ضرورة أن يرفضوا تسليم زمام عقولهم إلى من يفكر بدلا عنهم، وعلى الخروج من ضيق عالم الأشخاص إلى رحابة عالم الأفكار، وعلى نبذ الخرافة والجهل.
ونجاح العملية التعليمية التربوية يقاس بمدى الإبداع والابتكار الذي ينبثق من تربتها ويخرج من أرضها، والإبداع لا يتحقق إلا في مناخ من الحرية، فهي التي تجعل الفرد قادراً على التحليق والابتكار والإبداع، وهي التربة التي تعطي النفس البشرية القدرة على تجاوز القيود الطبيعية التي فرضها عليها تكوينها البشري الحافل بالنقص والضعف، وعندما يكسر الإنسان هذه القيود يستطيع السيطرة على كثير من القوانين التي كانت تقف حجر عثرة في سبيل هيمنته وتمكنه من تطويع ما يقف في وجهه من عقبات، ومما يؤكد أن التعليم عندنا لم يصل بعد إلى تلك المرحلة التي يكون فيها قادراً على تكوين العقول والأخذ بيدها إلى الصعود لهرم الإبداع، عدم قدرته على إنجاب العقول القادرة على الخلق والابتكار، وهناك دراسة إحصائية تقول: إنه منذ عام 1980م إلى 1999م لم تسجل البلدان العربية سوى براءة 370 اختراعاً فقط، بينما سجلت كوريا الجنوبية مثلاً 16328 براءة اختراع.
ربط العملية التعليمية بالتنمية، وباحتياجات السوق العالمي، وتمكين الباحثين من القيام بدراسات ضافية عن حاجات البلاد الأساسية، ثم الاستفادة من هذه الدراسات في القيام بتطوير التعليم، سيساهم في رفع مستوى التعليم والقضاء على البطالة، وسيزج بنا في السباق الذي نتطلع إليه منذ زمن، غير قادرين على الدخول في مضماره.


amalzahid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved