الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 31th July,2006 العدد : 164

الأثنين 6 ,رجب 1427

الزمزمي
قراءة فيما بين وجعين (الحياة والقلب)
عليى فايع الألمعي

بين أن تكون وفياً وأن تكون ثقيلاً على قرّائك مسافة كتلك التي بين الشّعر والنّظم، ولأنّ الشّعراء يقولون شعرهم، فيرويه عنهم قرّاء أسرهم الشّعر، أو حاصرتهم الهموم، فكتبوا حتّى تعبوا ولم يجدوا لحزنهم نهاية، أو لنزفهم من يوقفه، وعبدالله الزمزمي، شاعر ألمع، أحد أولئك الشّعراء الذين كانت القصيدة تعذّبهم حين تخرج، وتعذّبهم قبل أن تكتمل، وتعذّبهم بعد أن يقرأها النّاس، لعدم وجود قدرة توقف نزيف المشاعر، ومرارة الحياة.
فقد آثر في آخر حياته - يرحمه الله - أن يصمت بعد أن رأى ألا جدوى فيما يكتب، فلا همومه انتهت، ولا حياته استوت، ولا من حوله استقاموا على كلمة سواء، بيد أن رغبة ملحّة بعد وفاته قد عجّلت بشيء من العودة فيما كان يكتب، فإذا هو صورة بريئة للإنسان الذي يحسّ فلا يجد أعزّ أو أجلّ أو أقدر من القصيدة، لذا لزمت العودة إلى شاعر غيّبه التّجاهل؛ وغيّبته الهموم، لكنني مقتنع بأن من قرأت له في هذه العجالة هو شاعر موهوب وشاعر مطبوع، وشاعر امتاز بحساسيّته المفرطة إلى درجة الإغراء بقراءة ما يكتب،لأنّه لا يكتب غير الجراح الرّاعفة، ولا يكتب إلا لينبش همومه وأوجاعه، فسطور قافيته تعجّ بالحزن والأسى، لأنّه استطاع أن يُحرّك أوزان قصائده ويطوّعها باتّجاه ذاته، وباتّجاه غيره من المحيطين به، لذلك لن يكون غريباً أن تجد زمناً قد قسا عليه، وبراعة لا يتقن تصويرها إلا من علم حقيقتها وعاش مرارتها فهو يصوّر ثورةً لا شكّ في أنّه ملمٌّ بكلّ تفاصيلها.
وإذا قدّر لقارئ أن يفتح لفافة صمته، وأن يغوص داخل فنّه، فإنه سيجد بعض معاناته، إلاّ أن القارئ شعره يتمنى عليه إلا يكتم من معاناته شيئاً، وأن يثور على نفسه أكثر لكي نستمتع بالمزيد من شعره الجميل لأن مقولة (أعذب الشعر أكذبه) لم تعد ذات رواج في سوق الأدب المعاصر، بل أصبح الشعر الصادق أعذب شعر يُقرأ.
ولأنّ القارئ يحتاج إلى شعر الشاعر حتّى ينزله منزلته التي يستحقّها بعيداً عن المديح والإطراء فإن وقفة أولى مع المفردة التي طوّعها الشّاعر لبعض شعره، خلقت من شعره سهولة، ومباشرة، ويقيناً مطلقاً بألاّ حزن قبلها، ولا توبة بعدها أو غفران.
ولأنّ ما يميّز شعر عبدالله الزمزمي كثير، فقد جاءت مفردته سهلة ممتنعة ينسج من خلالها شعره، ويبني بها مشاعره النازفة إحساساً، والراعفة شعوراً، والسّاكنة في وجدان الشاعر، حتى يشاء لها أن تنفلت، وأن تخرج للنور، فهو في كثير من قصائده يعمد إلى أن يكتب نفسه في قصيدته، معتمداً على قناعته بصدقه:
فخاصرة الشعر حسّاسة
وأخشى عليها بأن تُطعنا
فدعني أسافر بها للسمو
فإني أخاف بأن تدفنا
إذا ما وجدتَ بقلب القصيد
مشاعر صدق فتلك أنا
ولكي يكوّن القارئ فكرته عن الشّاعر، فإن الواجب عليه أن يقرأه من داخل نصّه لا من غيره، فقد يكوّن صورة واضحة المعالم، بديعة الرؤية، سامية المعنى، وقد يقع على كثير من همومه في ذاته، فهو في شعره مجموعة من الدموع الأبية القاسية، ومجموعة من الهموم الموجعة، ومجموعة من المشاعر التي تحرق ضلوعه من أجل بيت يفتح به لغيره دروب المواساة التي لم يستطع غيره صياغتها شعراً.
شاعر تحضر مفردته الحزينة في كثير من مفرداته، لتشكّل علامة بارزة، وملمحاً واضحاً في شعر الزمزمي فهي - أي مفردته - لا تخرج عن نطاق حزنها، وحزن صاحبها، ف(الشقاء، والأسى، والقسوة، والحزن، والجراح، واللوعة، والهمّ والمرارة، والعذاب، والجور، والعناء، والألم، والبؤس، والجفاء، والهجران، والسوداوية، والبكاء، والدموع، والانتحار) مفردات ثابتة في قاموسه الشّعري، لكنّنا نقرأ في كلّ واحدة منها أكثر من معنى، ونقع بعد اجتهاد على أكثر من تفسير.
إنّه الشّاعر الذي قدّر له أن يرى الحياة بؤساً، إذ نحى منحى يقابل توجّهه، فقد أخذ يخلخل في الحياة عرفها، وألفها، ويستجيب بأحاسيسه لقسوتها، بأن اتّخذ البوح وسيلة فاعلة في كشف تراكمات الداخل، ليبدو إحساسه بها ممزقاً، وذاته مهترئة أمامها، ونفسه في غير طبعها وطبيعتها،فهناك من لم يعد يشعر بصدق ابتسامته، فمن يرى الحياة بعيون سوداء لا يمكن أن يعرف للابتسامة الصادقة طريقاً، ولا يمكن أن يرى للوجود قيمة.
فالشاعر الزمزمي يعتمد على حسّه المرهف، أكثر من اعتماده على الفكر، يقارب اللفظة لمستوى يجعلها فيه قريبة للدموع، ملامسة لمشاعر العامة والخاصة مّمن يمرون بها، أو يعيشون مرارتها، لذا كان علينا أن نتساءل عن دواعي وجود زهور الربيع، وأعواد الخريف، وثنائية التلازم بين الوجع والبؤس، لأنّه قادر أن يسكت مشاعره التي تغلي بأن قرّر دون رغبة في المواربة الاعتراف بوجعه، وصموده الذي لم يقدر عليه:
جرّبت كل الموجعات فلم أجد
أقسى من الدمع الأبيّ إذا همى
حاولت أحبسه فأحرق أضلعي
وجرى على ثغر القصيدة علقما
ولأنّ تكوين القصيدة وتركيبتها عند (الزمزمي) ترتبط في كتابتها بشعور ذاتي سرعان ما يُقرأ على أنّه همّ عامّ، فتخرج القصيدة وقد لبست ثوبه وثياب النّاس الذين يقرؤون شعره، لأنّها تلتقي مع كثير من مآسيهم، فقد قلّ أن تجد في شعره بيتاً لا يدل على ذاته، فأنت تقرؤه باكياً، وتقرؤه شاكياً، وتقرؤه - أكثر - شاعراً متذمّراً:
منذ ابتسمت على الجراح
فلم أنل بالعتب شيّا
وقسا الزمان على الفؤاد
فكنت ينبوعاً سخيّا
ونشرت أوراقي فلست
بكاتم سرّاً خفيّا
والقصيدة عند (الزمزمي) عَبْرة قاسية، وابتسامة مُصْطنعة، مرارة وعذاب:
أقسى من العبرات عندي بسمة
سُقيت بماء مرارة وعذاب
وهي - أي القصيدة عنده - اعتراف بخطأ، وخوف من وجود، ورغبة في فناء، القصيدة عنده شرود، وحضور، واحتراق، وارتهان:
أيها النّاهل من عذب قصيدي
هل تأمّلت حضوري وشرودي
وابتسامي واحتراقي ألماً
وانطلاقي وارتهاني بقيودي
لست أشكو يا صديقي أبداً
إنما الآلام من سرّ وجودي
أنا لولا الحزن لم أكتب ولم
تنهل الآذان من عذب قصيدي
فالشاعر برغم كلّ بؤسه، وبرغم كلّ جراحه، إلا أنّه يصرّ على عذوبة شعره.
والسؤال الذي يشغلك، وأنت تقرأ له:
من يكون هذا الشّاعر؟!
وما عساها تكون قصيدته؟!
ولعلّ القارئ شعره جيّداً، العارف بذاته - ولو من خلال شعره - يلحظ المفارقة بين الشاعر برسمه وهيئته، وبين القصيدة بغضبة قائلها، وروعة بنائها، ورهافة حسه.
كما أنّه يلحظ الرابط الوثيق بين الرّوعة والرّهافة والمتمثّل في تلك العملة الواحدة ذات الوجهين المتفقين، فأنت تقرأ نفسه في سطوره، وهمّه في قوافيه، وغلبة روحه في مفرداته، لذلك تستطيع أن تعثر عليه داخل حقيقته في معناه الصريح، وأن تجد معناه في حقيقته المرّة، فهناك بواعث تستفزّ شعرية (الزمزمي) نحصرها في الآتي:
أولاً: ذاته
عندما يتحرك الوجد في داخله، ويُقضّ مضجعه، وتُزهق رغبته في الصمت، تتحرك القصيدة في داخله، فتبعث الشعر النابع من الإحساس، مصحوباً بأنينه،وحنينه:
تأمّل بواعث شعري تجد
حنيناً، أنيناً،صدى موهناً
وعندما يصرخ العمر، وينبض القلب، ويبدأ العقل بفرز مواجع الفؤاد، يستجيب الشاعر لنداء ذاته:
أنا العمر يصرخ فيه الشقاء
وحيناً يُغرّد فيه الهناء
لكنّ هناءه في شعره قليل نادر.
ثانياً: المكان
يحصر الشاعر (الزمزمي) التفاؤل في شعره على المكان الذي بدا بارزاً في شعره وهو (الشام) والتي نلحظ فيها بواعث الأمل، ونوافذ الفرح المشرعة أمامه، والممهّدة له طريق الصفاء، وذلك لارتباطه الوثيق بها، لأنّها استطاعت أن تعكس قوّة شاعريّته، من خلال مفردته السخيّة، وروحه المنتشية معها، وقلبه الأسير فيها:
يا ساكني الشام قلبي من مساكنكم
لا تهجروه فيغدو بعدكم خربا
غداً أعود وخيلي لا صهيل لها
ما أحزن الخيل أن غادٍ بها غُلبا
وهناك نجده قد تحلّل من قيود الحزن، واغتال كل الكلمات السّاخطة، ووأد فيها بقايا الحزن:
كم ياشآم دفنت فيك عتيقاً
من جور أحزاني وسرت طليقا
غلب الهوى أمري وأضناني النوى
فذرفت دمعي واحتسيت الريقا
وهو كثيراً ما يعمد إلى ربط المكان بقوّة تأثيره على نفسه إيجاباً،فيعبّر عن سعادته بنسمات الشام،حينما تقوده إلى برّ الأمان، وتحلّق به في سماء الفنّ، وتذرع به مساحات البياض الناصعة فكأنه رسام جال بخياله في خضرة المكان، وشاعر طوّف بنظراته معاقل الجمال؛ لينظم الشعر في عيونه، وليصوغ ألذّ القوافي وأعذب الكلمات:
هّبي بعطر الروض يا أنسام
وانسج خيالك أيها الرسام
وأنظم عيون الشعر يا قلب الهوى
فلقد حبتك بما تراه الشّام
أن الجمال هنا، فيا عشّاقه
أن هام فيه متيّمٌ أيُلامُ؟
ثالثاً: الناس
بعض الناس عند شاعرنا (الزمزمي) هم من أدخله في صراع بين الحزن والفرح، التشاؤم والتفاؤل الذي غلب عليه المكان، فالناس عنده يخضعون لنظرة تقلبيّة مزاجيّة، بمعنى أنها تخضع لعلاقته بالآخر عاطفةً أكثر منها خضوعاً للعقل، نراه يمقتهم، يراقبهم، يرصد لهم سقطاتهم، سجّل عليهم كبرياءهم، وأخذ عليهم بعض صفاتهم، وراقب كثيراً حركاتهم وسكناتهم حتى فقد ثقته فيهم؛ ليفضح من وجهة نظره مضامين عيشهم، ويخبر عن عدم صفائهم:
بعض من الناس ثوب دونما جسد
جاءوا فما ذُكروا ماتوا فما خُسروا
وبعضهم كبرياء حين تبصره
تراه للخير والعلياء يأتمر
وبعضهم كرعود مالها مطر
مثقفون فما غابوا ولا حضروا
وبعضهم في مجال الغدر محترف
كثعلب الثلج لا يلقى له أثر
فهل بقي لهم عنده ما يعبّر به عن إنسانيتهم التي سلخهم منها، وجرّدهم من صفائها ونقائها وطهرها؟! ألم أقل إنه يراقب سقطاتهم دون أن يبرز شيئاً من محاسنهم؟! وهذا ليس عيباً في عبدالله لأنّه كان يعتقد الصدق، ويعتنق الكبرياء، ويقرأ النّاس وفق تأثيرات جانبيّة، أصعبها المرض. فهو كثيراً ما يسلم قلمه لعاطفته، وقوافيه لهواه، ونفسه التوّاقة للنقد، لموقف طارئ أو حالة عابرة حكمتها نفسيّته الثائرة.
رابعاً: المرأة
ترتبط المرأة في شعر الشاعر بالمأساة ارتباطاً كليّاً، ففيها جزء من مأساته، وفيها شيء من مسحات حزنه وبؤسه، فليست المأساة في الحياة كلّها، بقدر ما هي انعكاسات لأشياء مخزونة في ذاكرة لم تعد تجدّد، ولم تعد تحبّ، ولم تعد تتفاءل، لذا نراها باقية لأن ترسم صورة المأساة الواحدة دون تفريق بينها وبين صورة الحياة التي نفرضها في خيالاتنا الجامحة أو حتّى أحلامنا غير الممكنة، فالشاعر (الزمزمي) مكبّل بالحياة في صورتها الواحدة التي رسمها لتكون مؤطّر بحدودها، تفرض ذاتها على شعره فرضاً، الأمر الذي يجعله متقوقعاً على ذاته في نمطيّة الحزن القاتم، فهو يمارس في شعره بوحه وتصنعه للمخارج المثيرة للجدل بما يراه حائلاً بينها وبينه، وإن لم يُصرّح بذلك لها، وهذا ما يُعذّبه ويُبكيه، فهو يتألم ويبكي من أجلها؛ لأنه يعلم مصيرها، إن ذهب فسوف يعود وحيداً، يتألم وحيداً، ويعرف حقيقة ما يخفيه وحده دون سواه، ومن شكوى لشكوى يظل (عبدالله) وحده فيما يؤلمه ويؤرقه ويكتبه؛ لينشره، لذلك كانت صور الشاعر الشعرية مبحرة بالخيال، ومتنوعة المغزى والمبنى إلا أنها وظّفت في تصوير المأساة ذاتها، فكانت الكلمات تخرج بنا من عالمها إلى عالمه المتغيّر والمتأثر والمتموّج، تصفه بحرقة، وتشرّحه بجرأة زائدة، وقسوة فاضحة.
تلك قراءة سريعة لشاعر ألمعيّ، صمت اختياراً، ومات وفي فمه ماء علينا. ولأنّه مات فلن يليق بنا وبه إلا أن نترحّم عليه، وليكن وفاؤنا له أن نقرأ شعره، ونحن نعلم أنّه ما عُرف كغيره من الشّعراء الذين كانت وجاهتهم وكان حضورهم عبر الصحف والمجلات سبباً في قراءتهم والالتفات لهم، ف(عبدالله الزمزمي) لم يكن يسابق غيره لينشر جراحه، بل كان - يرحمه الله - يكتفي بكتابة شعره بخطّ يده الجميل، وصفاء لغته، وقوّة عبارته، فلم يُعرف كثيراً بين قرّاء الشّعر ولا بين نقاده ولا بين متذوّقيه مع أنّه طبع ديوانيين يتيمين، وهجر الشّعر في آخر حياته كما كان يقول.
الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved