Culture Magazine Monday  31/12/2007 G Issue 227
فضاءات
الأثنين 22 ,ذو الحجة 1428   العدد  227
 
بمناسبة انقضاء 31 سنة على وفاته
أيام كان أندريه مالرو مهرّب آثار...!
غازي أبوعقل

 

 

كان عمر القرن العشرين دون السنة يوم وُلد جورج (أندريه) مالرو في باريس، اليوم الثالث من نوفمبر تشربن الثاني 1901 اجتاز ثلاثة أرباع القرن وغادر الدنيا في الثالث والعشرين من نوفمبر أيضاً عام 1976

كتب في (نقيض المذكرات) Anti Mémoires أنسى دائماً أن اسمي ليس أندريه، غير أن أحداً لم يَدْعُني إلا به، اسمي في الأحوال المدنية هو جورج). أما لماذا اختار نقيض المذكرات عنوناً (لمذكراته)؟ فهو ما حاول شرحه قائلاً: (أُسمّي هذا الجزء من أعمالي (نقيض المذكرات)، لأنه يجيب عن سؤال لا تطرحه المذكرات نفسها، ولأنه لا يجيب عن الأسئلة التي تطرحها المذكرات).

وضع برنار روسل . B. Rousse الأستاذ المُجاز في الأدب الفرنسي، دراسةً عن حياة مالرو قَدَّم فيها تحليلاً منهجياً لروايته الأكثر شهرة (الشرط البشري)، افتتحها بإشارة موجزة إلى ولع مارلو بالفنون منذ شبابه، وكيف قاده هذا الولع غداة زواجه سنة 1921 إلى مغامرة في أدغال الهند الصينية أيام كانت مستعمرة فرنسية، وهي حكاية جديرة بأن تروى، قال روسِّل يصف قضية نقوش معبد بانتي آيسيري Banteai-Sery التي جرت بين نوفمبر 1923 ونوفمبر 1924: جذبَ انتباهَ مارلو مقالٌ نُشر في فرانسا حول هذا المعبد الواقع في قلب الغابة الكامبودية، فتزوَّد بأمر مهمة من وزارة المستعمرات، وأبحر مع زوجته وصديقه شيفاسُّون إلى الهند الصينية. لم ترحب إدارة المستعمرة بهذه البعثة ونظرت إليها بعين الحذر. فالمعبد غير مُصَنَّف ولم يزره أحد منذ أكثر من سبع سنوات، والنباتات المدارية تكاد تغطيه. مع ذلك ذهب الثلاثة إلى المعبد وعادوا منه، واستعدوا للعودة إلى فرانسا، إلا أن عناصر من الأمن العام زارتهم وفتّشت حقائبهم وصادرت منها سبع قطع تمثل وجوهاً نسائية مأخوذة من المصَى الجنوبي. وهكذا أحيل الصديقان إلى القضاء وحوكما في فرنسا وصدر ضدهما حكم بدائي في يوليو 1924 بالسجن، خُفّف بعد الاستئناف إلى غرامة مع وقف تنفيذ الحكم بالسجن، وأخيراً ألغت محكمة النقض العقوبة بعد أن تقدم مارلو باسترحام وأيَّدَه بعض الكتّاب في مسعاه. غير أن إدارة المستعمرات لقَّنَتْه درساً قاسياً بإصرارها على إهانته وإفقاده رصيده المعنوي. ولسوف تلعب الإهانة دوراً كبيراً في أعماله الأدبية.

مرت السنوات، وكان مارلو في مدينة (ينيسيا) الإيطالية عندما عاد الجنرال دوغول إلى الحكم في مايو 1958 فانفتحت مرحلة جديدة في مسيرته المهنية. سمي أولاً مُفوَّضاً منتَدباً في مجلس الوزارء، وكُلِّف بعدئذ بمهام وزير الشؤون الثقافية. لعله من المفيد معرفة كيف رسم الجنرال دوغول ملامحَ دور مالرو في إطار مجلس الوزراء فكتب في الجزء الأول من (مذكرات الأمل) هذا النص: (سوف يكون على يميني دائماً أندريه مالرو. إن حضور هذا الصديق النابغة، هذا المتحمس الذي يهوى المصائر السامية، ووجوده إلى جواري، يولّد عندي انطباعاً يجعلني أشعر بأنني، عن هذا السبيل، مُغَطَّى مما هو مُبتذل. إن الفكرة التي يكونّها عني هذا الشاهد الذي لا يُضَاهَى تُسهِم في توكيدي وتدعيمي. عندما يدور النقاش ويكون موضوعه مهماً خطيراً، أكون على معرفة بأن محاكمته للأمور وحكمه عليها، وسرعة تفكيره الذي يؤثّر في النفس سيساعد على تبديد الظلمات).

بعد انقضاء نحو عشر سنوات على وجود مالرو في (وزارة الشؤون الثقافية) لم يتوقف النقاش حوله، واختار روسّل تقديم أنموذجين متعارضين نُشرا في صحيفة (لومند Le Monde) أيام حملة انتخابات رئاسة الجمهورية الفرنسية التي جرت في ديسمبر 1965كتبَ التعليق الأول جيروم ليندون مدير دار نشر Minuit جاء فيه: (يبدو أنها المرة الأولى، منذ مدة طويلة، التي تَدَّعي فيها حكومةٌ ما أنها تريد أن تصنع من الثقافة شيئاً آخرَ مختلفاً عن (التَّسَالي) وغير ملحق بها لتزجية أوقات الفراغ، أو مصدراً للدخل المالي. سعيدٌ أنا لكون راعي الفنون والآداب اليوم هو كاتب عظيم وناقد عظيم، وأستعير مثالاً من الرسم لأعبّر عن إعجابي بأنه يُفضّل من الرسامين Balthus و Chagall أو (Masson) وكتب التعليق الثاني مور ان ليبِسك الذي لام ليندون على خلط مفهومي ثقافة وثقافي: يَفْصِلُ الفَرقُ بين ثقافةٍ وثقافي، في 1965، أنظمةَ التقدم عن الأنظمة الماضوية. فالثقافة، هذه الإثارة التي تسمو بالواقع، هي الحصيلة الفكرية لشعب. أما الثقافي فهو نِتاج فاخر، وترف فخم. لا تهتم الجمهوريات البورجوازية، المُلَقَّبة (الجمهوريات الأثينية) نسبة إلى أثينا الإغريق لا تهتم إلا يالثقافي. إنها تكشط الهبابَ عن النُّصُب والمباني، وتطلي السقوف، وتقيم التماثيل في الميادين، وتدفن الفنانين بأبهة، وإذا استثنيا إقامة (المراكز الثقافية) فإن السيد مالرو لم يفعل شيئاً...).

ليس هنا مجال حساب ما لمالرو وما عليه، ونكتفي باستعادة هذه الواقعة ذات المغزى، ففي أوائل الستينات هاجمت الصحافةُ المحافظة والحركات اليمينية بعنف اندريه مالرو لأنه أجاز عرض مسرحية جان جينيه الشهيرة Les Paravants وعلى مسرح تُمَوّله الدولة، مسرح أوديون في السابع والعشرين من اكتوبر 1966 وشارك نواب اليمين في الهجوم على الوزير، فذهب إلى منبر الجمعية الوطنية وقال: (يدا الحرية ليستا نظيفتين دائماً، ولكن يجب التَّروي والتَّمعُن أكثر من مرة قبل رميها من النافذة (...) حذار. لم يُطْبَع بودلير على نفقة نابوليون الثالث، إلا أنكم اليوم تقفون مع الذين دانوه أنتم لا تعرفون ولا أعرف أنا أين يَتَجذَّر الشعرْ...).

بعد انقضاء نيّف وثلاثة عقود على رحيل مالرو، فإننا نسمع كل يوم على هذا الجانب الشرقي من المتوسط صراخ المستعجلين المطالبين برمي الحرية من النافذة، وتتسابق (وسائل الإعلام) والمحافظون العرب الجدد والقُدامى، ومنهم من (يمثلون) الشعب إلى إدانة الكتّاب والفنانيين، كما فعل المحافظون الفرنسيون. غير أن المأساة تتجلى في عدم وجود أي مالرو في وزارات الثقافة العربية للتصدي لهذا المد الظلامي الذي يجتاح حرية التفكير، بينما يُقلّد مسؤولون ثقافيون كُثر أسلوبَ تعامل مالرو الشاب مع آثار المستعمرات.

- اللاذقية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة