Culture Magazine Monday  31/12/2007 G Issue 227
فضاءات
الأثنين 22 ,ذو الحجة 1428   العدد  227
 

حديث عن الصقر العائد
د. خلدون الشمعة

 

 

يقال في تعريف الرومانتيكية انها (فتنة المسافة)

(The charm of distance) والمقصود بهذا القول الافتتان بالأشياء ورؤيتها عبر غلالة ضبابية لدى النظر إليها عن بعد. ولكن معرفتي بالأستاذ عبدالله الناصر، معرفة من نوع آخر. فهي لم تنشأ وتنمو وتتطور عن بعد أو عبر مسافة، وإنما هي معرفة تستبطنها مقابسات مودة شخصية وصداقة عملٍ امتدت عبر ما ينوف على عقد كامل من الزمن.

لذلك كله يبدو الحديث عن هذه المقابسات الوجدانية والفكرية ضرباً من المجازفة أو قل أشبه بالمجازفة. فليس ثمة من بابٍ واحد تدلف منه لتتأمل وتتذكر وتدرس وتقيّم، بل أبواب عديدة تشير إلى أنشطة الأديب والمثقف والتربوي والإداري وتتلاقى في نقطة المحرق. وهذه النقطة يمكن أن تختزل بدورها ما تدعوه نظرية القيادة في علم الاجتماع ب(الكاريزما).

ومن المعروف ان عالم الاجتماع (ماكس فيبر) ابتكر هذا المصطلح للدلالة على ما دعاه ب(الخصائص الاستثنائية) التي تنطوي عليها الشخصية (الكاريزمية)، وهي خصائص تجعل صاحبها صانع قرار فعالاً ومؤثراً بامتياز.

آية ذلك كله انه يكمن وراء كل جانب من جوانب شخصية الناصر (الكاريزمية) وعي عميق ومتوتر، وسلوك رفيع، ونزوع أخلاقي مشحون. وقد تشكل هذا الانطباع في نفسي منذ لقائنا الأول قبل أكثر من عشر سنوات، ثم ترسخ وتعمق مع مرور السنين وتعدد التجارب. وبعبارة أخرى فإنني لم أكن بحاجة إلى خوض تجارب معه من النوع الذرائعي المبتذل حتى أصل إلى حكم القيمة هذا. لم أكن بحاجة إلى هذا الضرب من التجارب حتى اكتشف معدنه الأصيل. لم أكن بحاجة الى استعادة عبارة (تشارلز بيرس) فيلسوف الذرائعية الأميركي الشهير: (لا أقول هذا نمرٌ حتى أضع يدي في فمه).. لكي اكتشف نبل الرجل الذي نلوح له تلويحة وداع مؤقتة الآن. فالشيء الذي سيظل يفخر به هذا الصقر العربي العائد كما يقول في كلمته الوداعية المؤثرة والمنشورة في العدد الأخير من (الثقافية) انه: (لم يظلم بحمد الله احداً ولم يحاول أن يسيء إلى أحد ولم يخط قلمه حرفاً واحداً فيه أذى لأحد.. بل كان يدعو الله صباحاً وهو في طريقه إلى عمله أن يساعده على مشكلة يحلها أو حاجة يقضيها).

تلك حقيقة ناجزة يعرفها المبتعثون السعوديون الذين احتفوا به بقدر ما يعرفها العاملون الذين عملوا مع أبي عبدالعزيز في المكتب الثقافي والمجلة (الثقافية).

وأرجو ألا ينظر أحد إلى تقييمي هذا على انه تقييم محب وفيٍ فحسب، أو على انه تقييم ذاتي بمعنى مجانبة الموضوعية، أو على انه تقييم يضحي بالقدر من النزعة المتشككة والمرتابة التي أقبض عليها كالقابض على قطعة جمر. فالرجل لا يحتاج إلى مديح أو تزلف أو إطراء. كما انه يلعب من خلال حراكه الثقافي دوراً لا أعتقد أنه يمكن أن يصنف في ضوئه إلا باعتباره يمثل نشاطاً يتجه عكس التيار السائد إما على صعيد المحنة التي تمر بها أمتنا العربية في الوقت الحاضر، أو على صعيد الخيارات الانهزامية التي يرفع لواءها بعض مثقفينا المعاصرين. فكأن مجتمعاتنا العربية تحوم في فضاءات لا تنتمي إلى زمن محدد.

وهذا يذكرني بساعة الحائط المعطوبة التي يذكر أحد الفلاسفة في معرض السخرية من القرن التاسع عشر أن بندولها ظل يقرع عالياً ولكن عقربيها ظلا عاجزين عن تحديد الوقت.

عبدالله الناصر يكتب في جل ما يكتبه عن زمن عربي أفلت من عقاله فلا هو بحاضر ولا هو بماضٍ، زمن أشبه بساعة الحائط المعطوبة هذه. غير انه لا يستسلم لليأس أو الانكفاء على الرصيف السلبي.

فالكتابة عنده سواء كانت مكرسة للقصة أو الخاطرة أو الزاوية الأسبوعية، كتابة تستبطنها علاقة اقتران بين الإبداع والالتزام. ولكي لا أخضع هذه العلاقة لسطوة المفاهيم التي كانت متداولة وسبق أن قولبت مفهوم الالتزام بصيغة الأيديولوجية المهترئة خلال الخمسينات والستينات، فإن من الضرورة بمكان التأكيد على ان الالتزام المعني هنا هو التزام بمحمولٍ نقديٍ طوعيٍ جديد. فهو ليس إلزاماً مفروضاً بل التزام ذاتي وطوعي.

وهذا يمكن تقريه في مجموعات الناصر القصصية بوضوح. وقد لفتت هذه الظاهرة انتباه صديقي الأديب البريطاني الدكتور كريستوفر تنغلي Tingley أحد مترجمي مجموعته القصصية التي صدرت بالانجليزية مؤخراً. فقد أَسَرَّ لي لدى اطلاعه على قصة (الشجرة) التي حملت اسم المجموعة لأول مرة بأنها أدهشته بفنيتها البارعة واللافتة، وامتعته بالتزامها العفوي البعيد عن الإلزام الأيديولوجي المصطنع.

كما أشار إلى ان قراءاته لقصص الناصر وإعجابه بأدائها التقني غير المفتعل والقادر على نقل البيئة البشرية والمكانية في المملكة، بصدق وأمانة، كل ذلك يدل على أن حداثيتها نابعة من واقع محلي. وكان حديثه هذا بمثابة تعقيب على حوار دار بيننا حول انزلاق بعض سرديات الحداثة العربية إلى نماذج مفرطة في ألعابها الشكلية غير القادرة على الإقناع.

ولعل من المفيد هنا أن أنقل لكم باقتضاب، ملاحظة نقدية مهمة أفضى بها الأديب البريطاني نفسه في معرض حديثه عن جملة أعمال قصصية عربية ظهرت بالانجليزية مؤخراً. فهو يرى أن اختيارها للترجمة انطلق من أسباب لا تتعلق بجدارتها وإنما تتعلق بما تضمنته من مضامين فضائحية مثيرة تدعم نتائج أبحاث انثروبولوجية تستخدم للنيل من الحضارة العربية، واعتبار محنة التخلف العربي الراهن ذات أسباب بنيوية تتصل بطبيعتها (الانطولوجية) التي تستعصي على العلاج.

اختتم هذه الكلمات بالقول أنه لا شك أن الإبداع الفني وموقعه المركزي من تجربة عبدالله الناصر التربوية والصحافية والإدارية ربما يحتاج إلى حديث آخر أجده الآن ممتنعاً امتناع اضطرار لا اختيار.

تحية إعزاز للصقر العائد بعد ربع قرن من الغربة والاغتراب.. تحية معبرة عن قدرٍ لا ينضب من المحبة والوفاء.

- لندن


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة