Culture Magazine Monday  31/12/2007 G Issue 227
فضاءات
الأثنين 22 ,ذو الحجة 1428   العدد  227
 
توفيق القباني دمشقي كان يصنع الحلوى (1-5)
د. صباح قباني

 

 

(ستكون دمشق عام 2008 (عاصمة للثقافة العربية)، وهي ستستذكر بهذه المناسبة الهامة أبرز أعلامها من الأدباء والمفكرين والفنانين والمناضلين الذين صنعوا أمجادها وكتبوا صفحات مشرقة من تاريخها.

ويسعد مجلة (الجزيرة) أن تنشر نبذة عن أحد هؤلاء الرجال الأفذاذ هو الصناعي والوطني توفيق القباني (والد الشاعر نزار قباني) الذي كان نموذجاً للمجاهدين الذين أعلوا شأن وطنهم وناضلوا في سبيل منعته واستقلاله).

كان أبي أحد أفراد أسرتنا الذين لحقوا بجدنا أحمد أبي خليل القباني، مؤسس المسرح الغنائي العربي في الشام ومصر، بعد أن شجع الراغبين من أقربائه على المجيء إلى مصر لينعموا، كما نعم هو، بجوها المنفتح الذي هيأ له أسباب النجاح وزيادة في العطاء والإبداع بعد أن تقطّعت به سبل العمل في دمشق حيث لاحقه الغوغاء والظلاميون وقاموا بإحراق مسرحه واضطروه إلى الهجرة.

لقد أراد أبوخليل أن يلحق به بعض شباب الأسرة ممّن توسّم فيهم الطموح وحبَّ التعلم. وبالفعل ما إن دخلوا مصر حتى توزعوا في مدنها وقراها، وراحوا يسلكون مسالك شتى في الصناعة والتجارة والزراعة، ويتعلمون فيها ما لم يكن متوافرا لهم أن يتعلموه في الشام. فأبي ذو الخامسة عشرة، اتجه منذ البداية إلى الانخراط في صناعة الملبّس والنوكا والشوكولاته التي تعلمها على أيدي أهل هذه الصناعة من الجاليات الإيطالية والفرنسية في الإسكندرية والقاهرة. وكانت هذه الأنواع جديدة على أهل الشام الذين كانوا لا يعرفون من الحلوى إلاّ الأنواع القليلة التي تصنّع بأسلوب بدائي في البيوت ويدور بها الباعة المتجولون وهم ينادون عليها في الأزقة والحواري، (حلّي سنونك) و(ليطلا ّ) و(والملبن) و(الملضمينا).. ولذلك حين عاد أبي إلى دمشق، وأسّس فيها معملاً حديثاً لإنتاج أصناف الحلوى الأوروبية، انبهر الناس بمذاقها وبشكلها. بل حيّرهم كيف يمكن لحبّة اللوز أن تدخل في غلافٍ سكري محكم الإغلاق لتصبح ملبّسة!

وكان من الطبيعي أن يعتزّ بما فعل فيطلق على نفسه بحق لقب (المؤسس الأول لمعامل الملّبس) وأن يجعل هذه العبارة تتصدر أوراق مراسلاته و(يافطة) معمله.

وحين ذكرت لصديقٍ هذه الحكاية ابتسم وقال: (لا تستغرب.. إن هاجس التأسيس يتملككم جميعاً جيلاً بعد جيل؛ جدك أسس المسرح الغنائي العربي، ووالدك أسس أول معمل للملبّس، ونزار أسس مدرسة شعرية حديثة كانت نسيج وحدها بلغتها وتراكيبها وموضوعاتها.

وجئت أنت في نهاية المطاف لتؤسس التلفزيون السوري بعد مرور مئة عام تماماً على تأسيس أبي خليل مسرحه(1).

من مصر لم يتعلم أبي صناعة الحلوى وحدها، بل كانت نزعة التعلّم عنده منفتحة على كل ما كان يجري حوله. كان يطور نفسه ورؤيته باستمرار، وبخاصة أنه عايش مناخ الغليان السياسي ضد الاحتلال البريطاني، خلال حكم الخديوي عباس حلمي صاحب النزعة الوطنية الذي كان يغمض العين عن نشاطات المنادين بتحرير مصر، فعاقبه المحتلون الإنكليز بأن عزلوه عن كرسي الحكم عشية الحرب العالمية الأولى.

كان أبي يتمعّن في نشاطات الأحزاب التي ما انفكت تتصاعد في ظل السلطان حسين كامل ومن بعده السلطان أحمد فؤاد مطالبة بإنهاء الاحتلال وبالاستقلال والتي كانت محصلتها آخر الأمر ثورة 1919 بقيادة رئيس حزب الأمة سعد زغلول.

كان يتشرب أسلوب النخبة من السياسيين المصريين في ممارسة العمل الوطني، لأنه كان متيقناً بأنه سينخرط ذات يوم متى عاد إلى الشام في نشاط مماثل ضد الأطماع الأجنبية التي رأى من بعيد سحبها السوداء، وهي تتجمع فوق بلده عند نهاية الحرب.

أمر آخر اقتبسه أبي من السياسيين المصريين الذين كانوا من الأعيان والوجهاء وأعني به هندامهم وطراز ملابسهم، إذ سرعان ما تخلّى عن القمباز الشامي الذي أتى به إلى مصر، وراح يتزي مثلهم ببزات حديثة التفصيلات وبربطات عنق متماشية مع ألوانها. وكان أن ساهمت قامته المديدة الرشيقة في إبراز أناقته التي ظلت حتى آخر عمره بصمة مميزة له وموضع إعجاب أصدقائه ومعارفه وكل من كان يلتقي به.

معمل أبي كان يقع في أحد أحياء دمشق القديمة وفي نقطة وسط بين مدرستنا (الكلية العلمية الوطنية) الكائنة خلف سوق البزورية وبين بيتنا في حي مئذنة الشحم.

وفي غدونا ورواحنا، أنا وأخوتي ونحن أطفال، بين البيت والمدرسة التي لا يفصل بينهما سوى عشرات قليلة من الأمتار، كان لابد أن نمر بالمعمل لتحية الوالد وتقبيل يده، ومن ثم نبدأ بالتجوال الفضولي بين الأوعية التي على المواقد، لنتفقد ما يهيأ فيها من أصناف الحلوى وتذوق ما جهز منها، ثم نغادر لنكمل طريقنا إما إلى البيت أوالمدرسة، وكل واحد منا يتلمظ مستمتعاً بحلاوة ما انتقى: قطعة نوكا، أو حبة شوكولاته، أو ملبّسة منكّهة بالفانيلا.

هذه كانت حالنا خلال السنة الدراسية: غزوات خاطفة على طيبات المعمل كغزوات العصافير الصغيرة على بيدر - تحّط ثم تطير.

أما حين تأتي عطلة الصيف المدرسية، وكنا قد كبرنا قليلاً، صار مكوثنا في المعمل أطول، ولم يكن ذلك بهدف تذوق الحلوى، فكثرة ما تناولنا منها أصبح يجرح حلوقنا، بل من أجل أن نقدم ما تصورنا أنه (يد المساعدة) للعمال الذين ألفوا رؤيتنا ونحن نتجول فيما بينهم وبين المواقد وأكياس الفستق والسكر واللوز وبراميل (الغلوكوز)، وكأننا أصبحنا عندهم جزءاً من (ديكور) المشهد الذي يعملون فيه. وهكذا كنت ترى (معتز) يحشر نفسه أمام موقد عليه وعاء فيه ماء يغلي، يتصاعد منه البخار، ويعلوه وعاء آخر أكبر بقليل، يسبح فيه سائل الشوكولاته البني الساخن، فيلكز معتز العامل الذي يحركه لكزة خفيفة كي يتنحى له، ويسلمه الملعقة الخشبية الطويلة ليقوم هوبالتحريك. ثم ترى (نزار) (يساعد) في تقطيع النوكا التي تكون على شكل ألواح كبيرة قطعاً صغيرة، يتفنن في جعلها منتظمة الطول والعرض، ثم (رشيد) وهو يخطف المطرقة من يد عامل، ليحل محله في دق المسامير لإغلاق الصناديق الخشبية التي فيها البضاعة المعدة للتصدير إلى المحافظات أوإلى لبنان والأردن. أما أنا، الأخ الأصغر، فكنت بحكم سني وضآلة جسمي أكتفي بالانضمام إلى العمال اليافعين المتحلقين حول طاولة مستديرة، و(أساعدهم) في لف قطع الشوكولاته بالورق الذهبي المقصب أوقطع النوكا بورق (السلوفان) الشفاف.

على هذه الصورة كانت اقتحاماتنا المتكررة للمعمل ومداخلاتنا في عمل العمال، مما جعلهم يتندرون فيما بينهم حين يروننا داخلين عليهم كعصبة أوعصابة صغيرة، ويتهامسون باللقب الذي أطلقوه علينا: (تخربقها إخوان.. ها قد شرّفوا!). (2)

وأعتقد أن كثرة ترددنا أنا واخوتي على المعمل وانخراطنا في كل صغيرة وكبيرة من نشاطاته خلقت فينا نزعة عملية جعلتنا، مهما علت المناصب الرسمية التي تقلدناها فيما بعد، لا نترفع عن القيام بأي عمل يدوي تستدعيه الظروف.

صفحات من كتاب (من أوراق العمر)

1 - أنظر الحوار الذي أجراه الصديق الأديب الأستاذ عادل أبوشنب معي في مجلة (المعرفة) الصادرة عن وزارة

الثقافة السورية (عدد أيلول - سبتمبر2005).

2 - كلمة تخربق لعلّ أصلها من الفصيح (خربق) أي أسرع في حركته ولكنها حُرّفت وأصبحت تعني بالعامية السورية من ينشط في حشر نفسه بين الآخرين ويتدخل في عملهم

- دمشق


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة