Culture Magazine Monday  31/12/2007 G Issue 227
سرد
الأثنين 22 ,ذو الحجة 1428   العدد  227
 
القميص الأصفر
قاسم حول

 

 

كان سين يقف على منصة خشبية مربعة فوق منصة مستطيلة واسعة وبيده تي شيرت أصفر اللون كان قد اشتراه باثنتي عشرة قطعة معدنية من النقود وأراد أن يلبسه فوق الفانيلا البيضاء التي كان يرتديها بدون قميص. وخلف المنصة كراج لتصليح سيارات الغولف. هو لا يدري أين ركن سيارته الغولف القديمة، ولكنه يتذكر عندما أراد أن يركنها قرب الرصيف فاجأته شاحنة كبيرة وحالت دون تمكنه من إيقاف سيارته فشاهد حفرة صغيرة بعد مقدمة الشاحنة التي توقفت فطوى سيارته أربع طيات ودسها في الحفرة وبقيت مرآة سيارته شاخصة فوق الحفرة.

كان يجلس على حافة المنصة المستطيلة التي تحت منصته المربعة ثلاثة شباب لا أباليين يقولون كلاما لا معنى له ويقهقهون. وكان أحدهم يرتدي تي شيرت أصفر شبيها بالتي شيرت الذي اشتراه سين. لكن القميص كان مبقعا بدهن السيارات ولا يبدو صاحبه أحد عمال الكراج. كان سين يحاول قطع الكرتونة الصغيرة بأسنانه والمشدودة بخيط النايلون والمثبت عليها سعر القميص الأصفر عندما ناداه الشاب ذو القميص الأصفر المدهن.

بكم اشتريت هذا القميص؟

اثنا عشر.

هل هو لارج أم ميديم؟

لارج أجاب المواطن سين.

حسنا أعطني هذا القميص لأنه مقاسي وأعطيك قميصي الأصفر لأنه ضيق على بدني.

لا يدري كيف أنتقل القميص من يده وأصبح بين يدي الشاب ليقول له أنه من القطن الخالص. تي شيرت جميل ولونه الأصفر يستهويني. إن ذوقك قريب من ذوقي.

قال سين أرجو أن تعيد إلي قميصي فإني أشعر بالبرد قليلا وأنا بدون قميص وثمة رذاذ مطر وأخشى أن أصاب بالرشح والبرد. قهقه الشاب وقال له سأدفع لك نصف ثمنه وتستطيع أن تشتري قميصا جديدا.

(لماذا) سأله سين. لا يوجد سبب، أجاب الشاب ثم بدأ يطلب رقما في هاتفه المحمول وقال وهو يضحك. أحجزوا لي طاولة لشخصين ولا ضرورة لمعرفة اسمي فسوف تعرفونني عندما أدخل المطعم لأنني آت بقميص أصفر.

مد الشاب يده إلى جيبه وأخرج عملات معدنية غريبة. واحدة منها دائرية عريضة مثقبة كأنها عملة أثرية. وبضعة قطع غير محددة الشكل كأنها قطع نحاسية من تلك التي تتناثر في كراجات تصليح السيارات. تطلع إليها المواطن سين وحاول أن يفهم منها شيئا وعبثا كانت محاولته وهو يتلمس العملة الدائرية الكبيرة. تحركت قطعة خشبية من المنصة المستطيلة الشكل التي يجلس عليها الشباب الثلاثة ومشت بعجلات ومقبض وصارت أشبه بعربة نقل البضائع في مخازن الجمارك. كانت العربة تسير ببطء. قال له الشاب وهو ينزع قميصه القديم المدهن ثم يرميه ويلبس القميص الأصفر الجديد. هذه العملة التي أعطيتك إياها تعادل نصف قيمة القميص ولكن أعرف أنك ستربح حيث ستكتب قصة عن هذه الحادثة وتتلقى مقابل نشرها عشر مرات ثمن القميص في الأقل. وعقب الشاب الثاني قائلا، أرجو أن يكون القميص الأصفر عنوان قصتك، وقال الشاب الثالث. عندما تنشر القصة تعال إلى هنا ومعك قميص آخر نأخذه منك بنفس الطريقة وتكتب عنه قصة ثانية وكانوا يقهقون وهم يبتعدون، لكن سين تطلع نحوهم ولم يجد أمامهم طريقا يسيرون فيه.. مجرد ضباب مخلوط بالمياه لمسافات خرافية الحجم وهو لا يدري كيف يسيرون بعربتهم وعلى أي شارع وقد اختفت العربة واختفى تكوينهم، فخاف أن لا يجد سيارته التي طواها أربع طيات ووضعها داخل حفرة.

عندما هم بالنزول لمح زوجته وابنته وهما يصعدان في سيارة أجرة. أشار بيده نحوهم فلم يلتفتا إليه ولا سائق السيارة أنتبه، فصاح بأعلى صوته باسم ابنته لكن صوته لم يخرج وحاول جاهدا أن ينطق ثانية باسم ابنته ولكن الصوت لم يخرج. انطلقت سيارة الأجرة فواجهتها موجات من المياه العالية ما أضطر السائق للعودة من حيث أتى ومر من أمامه فحاول أن يصرخ باسم ابنته وزوجته وعبثا حاول فأراد أن يشير بيده نحوهم لكن يده كانت عصية على الحركة فحاول أن يقفز من المنصة فأحسن أنه ثقيل وكانت سيارة الأجرة تبتعد عن المكان وتختفي هي الأخرى باللامكان.

مسك بأطراف المنصة ونزل كمن يتزحلق وزحف قليلا على الأرض وصار يزحف ثقيلا كما مشية وحيد القرن. نظر يبحث عن سيارته وكانت علامته في المكان الشاحنة الكبيرة التي توقفت وحالت دون أن يركن سيارته لكنه لم يجد الشاحنة بل شاهد مرآة سيارة شاخصة من الحفرة.

وجد سين نفسه وهو يحاول إخراج سيارته من الحفرة، وجد نفسه في سيارته وقد تحولت إلى زورق مستطيل وفي طرفيه مجذافين وهو يجذف في خضم سائل مفترض أن يكون مياها لا نهاية لها تلتقي في أفق مائي يصعد نحو السماء. لا معالم للمكان ولا يعرف من أين أنطلق به الزورق المستطيل. الماء لم يكن هائجا ولكن ما يشبه الرذاذ الرمادي يندفع فيه بين لحظة وأخرى وتدفع به الريح بما يشبه رمال الصحراء عندما تدفع بها الريح نحو الشوارع الإسفلتية في بلدان الخليج. لم يشم رائحة الماء ولا الهواء لكنه كان يشعر بقشعريرة من البرد وهو يجذف وانتبه أنه بدون القميص الأصفر الذي اشتراه. حاول أن يعود ولكن عندما التفت لم ير ملامح المكان الذي انطلق منه وأحس أنه انطلق من اللامكان. سمع صوت مركبة. التفت فمر عن قرب منه زورق خشبي أيضا مثل زورقه هو العربة التي صعد فيها الشباب الثلاثة وهي تسير في هيئة زورق مربع تحركه ماكنة تدفع به مسرعا. لم يلتفتوا إليه، بل ابتعدوا ثم صار الرذاذ الرمادي يضبب الرؤية عنهم حتى اختفت ملامحهم وملامح الزورق ولم ير منهم سوى القميص الأصفر الذي أخذه منه الشاب والذي كان يجلس على المنصة الخشبية. كان القميص الأصفر يبتعد ويصغر ويتضبب ويسافر وحده بدون زورق ثم يتموج وسط الرذاذ الرمادي اللون ويبدو أشبه بقرص الشمس الأصفر عن ما يبزغ في البحر فجرا.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة