جنون النخيل
عبدالله خليفة
هذا ليل كثيف تطل فيه عيون السمك الميت، وتبدو أبنية الفندق العملاق مثل الاشباح الساكنة، او قطع الشطرنج الضخمة,
رماد منتشر، وغبار، وليل البحر خيم فوق التراب والاحجار، الصمت المفاجئ قطع أصوات المغنين والميكرفونات والزجاج الملون الصاخب، والقاعدون حول بركة السباحة سقطوا فيها او هربوا، وانطفأ الجمر المثرثر تحت الخروف المتقلب,
الابنية الكثيرة الهائلة على الشاطئ الطويل، اصابها الخرس والعماء اللوني، وبدت جزءاً من ظلمة البحر الكثيفة,
هناك أصوات كثيرة قربه، محتدمة، خائفة، ومتسائلة، افواج سياح مضطربة، تنزف ماء كثيفا ساخنا، تنطلق بملابسها المختزلة وتتصادم وتصخب، ورجاله يخترقون الجموع بمصابيحهم وفوانيسهم وشموعهم، وتبدو الظلال والانوار والهذيان والخوف والضحك مثل مشاهد احتفالية مرتبكة,
تليفوناته كلها تشتعل بالكلام، وتتجسد الكلمات والظلال كخطة خرافية,
أحد موظفيه عند الشاطئ يصف اصطخاب البحر، ورجرجة الموج المخيفة، فتتداخل جملة برذاذ الماء وأجيج الموج، ويقول مرعوبا ان الماء يهز الأعمدة، والساحل كله يتقلقل ويأكل الرمال,
وثمة موظف آخر تاه في الرمل المهاجم, جاءت كلماته من داخل عباءة الريح المتكلمة، وراح يصف المحطة الكهربائية، التي تغذي الشاطئ كله بالنور، صارخا إنه يرى اجساما عملاقة فوقها,, ثم انطفأ صوته كليّاً، ومات إرساله، في يده,
اخذ يناديه، لكن الريح وحدها اجابته صاخبة، مرعدة, اتصل بآخر فجاء صوته من صخب المطبخ واشتعال نار، وطالع من الشرفة الدخان الابيض يتمدد من النوافذ,
ماذا يجري؟ هل أدت عاصفة البحر والرمال الى سقوط المباني؟ ما هي تلك الكتل المخيفة التي تتحرك في الظلام؟
في بدء السهرة، كانت السماء زرقاء وامضة، تنفث انوارا لؤلؤية، ونسمات البحر تشكل مظلة من الحنو فوق البقعة الخضراء، والنزلاء والسياح وفرقة الهواء الاستعراضية يتداخلون في رقص، ويتبادلون الاقنعة وراح الشواء يغذي الموسيقى والاكتاف المهتزة، ويقلع البدلات المفتعلة,
وهو على طاولته الباذخة، يأكل الاهتزازات البيضاء الاخيرة للسرطانات ويسبح مع نافورة بين النجوم والعيون,
كان مرتعشا من الطقس والبورصة الرصينة,
جرته شقراء الى حلبة الرقص، ودغدغته بغدائرها ونسائمها، لكنه وزع ابتساماته على جميع الغزالات، وصعد الى جناحه في الطابق العاشر، وابصر الساحل والبحر والبرية الممتدة، وغابة الاشجار القريبة التي احضرها من القارات الخمس، فبدت تحيط بالابنية مثل القبعة الخضراء الكبيرة,
ارتمى على السرير ، والجدران كلها سكرى بالموسيقى الخافتة، كالدش المائي البارد في الصيف، كالبلابل الجميلة التي كانت تلاحق صباه في البساتين, ,,آه,, !
حينذاك عَصَرَ الاشجار رطبا وذهبا, ثم وجد الغيم شحيحا، والينابيع تبول وحلا، فوضع الانابيب فوق عظام البرك، ورمى الاعشاش في المزابل، اطلق اسنان المناشير في لحم الشجر,
كان رصيده غير كافٍ للسباحة في المدن,
وفي نهار مغبر ، اشارت إليه ثلاث نسوة ملفعات بالاسود، الى موقع هذا الساحل المدهش والغريب,, وقلن له: هناك ستجد رجلا عجوزا يعرض ارضه، منذ سنين، للبيع ولا احد يشتريها,
فاندفع بسيارته في سهل عذري ينحدر بجنون نحو البحر,
لم يكن ثمة شيء مثير للانتباه سوى حقل النخيل,, فلا الاحجار المشوهة الكبيرة وكأنها بقايا تماثيل او نيازك، ولا المصائد ذوات الرؤوس الخنجرية، ولا البحر الازرق العميق، ولا الينابيع الحلوة البحرية النهرية التي يظللها المحار القاتم، كانت تثير دهشته,
كانت النخيل ذوات وجوه آدمية، متكلمة، متجهمة، تتغلغل جذوعها في مياه البحر، وتبدو كقطيع واسع من المردة المحبوسين,
حكى له العجوز قصصا انتشرت مثل الاحلام في حضرة النخل المتنفس عصافير ونسمات,
زعم انه نخل عتيق، يعود غرسه الى آدم, كانت نواة أولى من بلح وحشي ألقاها في المياه، وكان البحر وقتذاك يملأ كل هذه الارض، فراحت النخيل تصنع اليابسة ، وينتشر طلعها فوق البحر، فيبزغ البشر والزهر والثمر,
أعطى العجوز ماله ، وباع جريد المصائد، وعبأ ماء الينابيع في زجاجات، ولم يغط خسائره,
وفكر مرة ان يبيع الارض ويهاجر,
لكن كانت النخيل تدهشه سنة وراء سنة, تكاثرها في البحر، واستيلاؤها على الساحل، وإزاحتها للاحجار، وتغلغلها فوق البرية، ومذاق رطبها الحلو، وتدفق السوائل الثمينة من ثمرها، اشياء بدت مفيدة رغم حيرته في تفسيرها,
تدفق المال في جيوبه، وامتدت مبانيه وراءها، وتكاثرت شاحناته وخدمه ومخازنه، حتى رأى النخيل يمتد في كل مكان ويأكل مساحاته ويحاصره، ويصدم الشاحنات,
عزم على إبادة غابة النخيل الجهنمية، واطلق للمناشير حرية الفتك بالجذوع، التي كانت تتساقط جذوعا وخوصا وسعفا وعناقيد وبلابل وظلالاً، ثم راحت اسنان الحديد الشرهة تتكسر، وتتفجر اسلاك الكهرباء بغتة وتنطفئ، ويصاب العمال بنوبات صرع ودوار، فيرون في الليل مشاهد اقنعة تتكلم وثلاث ساحرات يخترقن السماء,
لكن الإبادة كانت كبيرة، وارجع النخل الى دائرته المحصورة بين البحر والساحل، وبدت الجذور الضخمة المقطوعة مثل أفاع هائلة، وحبال سرة للأرض متفجرة بالدم والرماد، وغدت اعشاش الطيور مثل منازل مهروسة، وغاص المشهد البحري في رمل منتشٍ ، وتلفع البحر بغلالة من الزيت المشتعل، وجاء ضوء النجوم ككحل في عين عجوز,
حينذاك كان يسأل: لماذا انتشرت الكآبة في نفسه؟ وبدت الارباح مثل الخسائر، وطعم النساء مثل الخريف، ولماذا يعجز السفر والمطر عن إعادته الى صباه؟
ولا يصدق احد إنه كان يبكي, وان انتاجه للأولاد، الذين يأخذهم الموت والطمع والخسة، كحبه لبناته، اللواتي يعطين اسهمه وذهبه للصوص والغرباء,
وظهرت له ايام صباه مثل عربة من نور تسير نحو القمر، ومذاق كسرات الخبز اليابسة في الحقول مثل الشهد, وتضخمت الكآبة حتى غدت ايامه زجاجات ممتلئة ففارغة، واعتزم ان يستشير الاطباء فلم يفهموه، حتى راح يقدم في الليالي الدامسة النذور والابتهالات الى النخيل المنزوي والصامت في البحر,
ورأى فيما يرى النائم ، الرجل العجوز يتقدم إليه، وهو يحمل قدرا مليئا بالرؤوس المطبوخة, صاح به: انقذني ! فلم يهتم به, وراحت الرؤوس المقطوعة تحدق فيه ثم تتكلم, قال العجوز: ستأتيك نُذري, وكررها ثلاثا حتى ذاب في البخار الساخن اللافح,
بعد أيام ، جاءه مهندس شاب فزعا، وأخبره عن تشقق الارض وترنح بضع نحلات وظهور حفر هائلة تحتها، وتكون أخدود غريب، واقترح خطة مكلفة لردمه, لم يهتم بكلامه، ثم حين كرر أقواله صرفه من الخدمة,
وجاءت هزة مدوية ذات يوم تحركت المباني قليلاً، وتساقطت الأواني والنوافذ وفاضت البرك, ثم هدأ كل شيء, من يعطي الاصابع ألوانها، والقلب ارتجافاته وإشاراته؟ ولماذا أغفى، وفجأة تذكر الحلم والوهم وانطلق مذعورا في البرية، وانحنى للساحل حبا، وكانت النوارس راحلة، والاسماك نافقة على الشاطئ, وعندما عاد رأى الرجل العجوز والنسوة الثلاث ذوات الأردية القاتمة، زبائن في الفندق، فسجد شاكرا,
هناك لحظات من الهجس والخوف والذهول تكتنفه, فالزجاجات صارت هواءً، والشاشات تصاب بالاغماء، وثمة نسوة يمشين في الفضاء، ولا أحد يتكلم من النزلاء، وينزل ثلج في القاعة الكبرى، فيندفع الى الكشف باحثا عن اسم الرجل العجوز وهويات نسائه الثلاث، فلا يجد لهم أثرا، وينكر الموظفون وجودهم,,!!
والآن هو في غرفته محاصر بالاشباح والضجة, انطفأت هواتفه ولم تعد سوى الظلمة والريح مطبقتين على الاشياء ، والمصباح اليدوي الذي بحث عنه، لم يجده,
تحسس طريقه وعثر على الباب, نادى الخدم فسمع جريا وتصادما، ورأى السيارات في الأسفل كالحشرات تمد خرطومين من الضوء، ثم تفر هاربة,
المصعد توقف، والحرارةخانقة،والريح تصفع الابنية بالتراب، وعليه ان ينزل سلم الطوارئ بين اكداس الاحذية والمصابين والأشياء، ويرى المكان المبعثر المصدوم مبعوج الخاصرة، وذلك الخط الشيطاني للنخيل الذي بدا كثيفا ومرتعشا بضوء أصفر,
عندما نزل خطوة سمع شيئا مدويّاً، اهتز البناء كله، وتناثرت شظايا الزجاج وانفلقت غرفة بعثرت مصارينها قربه,
ترنح، ولم يسقط، شاعرا بضربة مؤلمة في ظهره، ثم جاءت هزة مدوية اخرى، وبحلق في الفضاء مرعوبا، كانت النخيل تنقذف في الريح والغبار والنار وتصطك بالجدران,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved