Friday 12th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الجمعة 24 ذو القعدة


من المكتبة
حوار مع يحيى حقي(*)
2 -2

حيرني سؤالي طويلا,, ترددت دون ان أرفع عيني إليه وقلت:
** الخاص إلى العام,, ثم تضيف في موضع آخر وصفا مناقضا تمام المناقضة لما نفهم ونعرف، وهو ان التعبير الادبي هو تحويل العام إلى الخاص,, فكيف يتفق الوصفان عندك؟
- ابتسامته الودودة تشيع الدفء في المكان حولنا,, نقرات اصبعه فوق سطح المنضدة تخرج مع كلماته:
الآن وأنا في حالة اليقظة وامتحان النفس اتبين ألا تناقض بين القولين,, بل ارى رأي العين ألا وصول من الخاص إلى العام إلا بعد الوصول اولا من العام الى الخاص، فلا قيام لصدق العام إلا بقيام صدق الخاص محددا تمام التحديد,, بل لعل هيامي بهذا التحديد مرجعه هو الوصول إلى العام الخاضع لما يلزمه من التجريد والتخلص من قيود الزمان والمكان، بل ومن خصائص اللغة,, فصائد السمك عند (هيمنجواي) في (العجوز والبحر) هو صورة صادقة محددة لصياد سمك في جنوب امريكا,, وزوج الاحذية القديمة عند (فان جوخ) لا مثيل له في العالم,, والفلاح الذي رسمه الفنان الروماني (جريجورسكو) ينطق كل خط فيه انه فلاح من رومانيا,, من اجل هذا وحده بلغت الصورة مرتبة الدلالة العامة,, (راجع أنشودة للبساطة طبع مؤسسة الاهرام 1972م),, فإذا بلغت هذه الدلالة العامة تخلصت من قيود الزمان والمكان والظرف العارض,, بل تخلصت من خصائص اللغة ايضا، وهي آخر وأصعب قيد ينكسر هنا,, حينئذ يتوجه الادب برسالته إلى جميع الناس,, ومن هنا كما نقول دائما يبدأ يكتسب صفته العالمية انطلاقا من المحلية,, فصياد (هيمنجواي) يصبح صياد سمك حيثما وجد وأينما وجد,, وزوج الاحذية القديمة في لوحة (فان جوخ) تجده في اي دكان اسكافي في كل بقاع الارض,, وذبيحة القصاب في لوحة (رمبرانت) تجدها في دكان اي قصاب في اي مكان تحت كل سماء,, وفلاح جريجورسكو الروماني كأنك تعيش معه في ريف مصر,, ذلك لان عمل الفنان الحق هو تجريد الشيء من ملابساته العابرة لكيلا تبقى إلا سريرته وجوهره .
يضيف يحيى حقي وابتسامته تزيد:
وأعجب من هذا,, انني مع إيماني بكل هذا الكلام - ولا تندهش - أواظب على نصيحة اصدقائي الذين يقرؤون علي أوائل قصصهم - بعكس ما قلت منذ قليل وعلى خط مستقيم - فتجدني اقول لهم: القصة يا أبنائي هي في النهاية تحويل العام إلى الخاص,.
كيف ؟
أنت تريد ان تحدثنا عن إنسان بالذات,, عن طائر بالذات,, عن منضدة بالذات,, فينبغي لك ان تفرزها عن العموم والشيوع وتحددها لنا تحديداً لا يقبل الابهام او الاختلاط بغيرها.
هذا المطلب يقتضي منك قدرتين عسيرتين في وقت واحد:
الاولى : هي قدرة قاموسك على الاتساع بحيث يشمل جميع الانواع والفصائل,, فتعرف مثلا اسم كل طائر وكل زهرة وخصائص كل منها,.
وهنا أضرب لك مثلا ألمسه بنفسي فيما أقرأ من القصص,, يقول الكاتب: (ورفع بصره فراى طائرا يحلق فوق رأسه),.
هنا أقول له: كان ينبغي عليك ان تقول (فرأى غرابا أو هدهدا أو حداة أو صقرا,,, الخ),, او اسمع احدهم يقول: (فقطف زهرة وراح يتنسم عبيرها),, وأقول له: هنا كان ينبغي ان تقول: (فقطف يا سمينة او قطف قرنفلة او فلة,, الخ), أو قد يقول كاتب مثلا: (ودخل حجرة قديمة الاثاث فيها منضدة),, هنا أقول له أكمل وقل: (منضدة من خشب ابيض اغبر طلاؤها او انفرجت قوائمها),.
انت مثلا قد تصف بطل قصتك بأنه شيخ ثم تتركه وتتركنا وأنت تعلم ان الناس لا يشيخون على هيئة واحدة,, فهذا فقد أسنانه,, وهذا انحنى ظهره,, وثالث كف بصره,, فينبغي إذن ان تصف لنا شيخوخة هذا الشيخ بالذات,, وكذاك الحال إذا تحدثنا عن شاب ينبغي ان تصف لنا كيف تجلى عليه شبابه الذي اختص به.
والثانية: هي التحديد,, لانه هنا ينبغي التحديد ما دمت تتحدث عن شيء او فعل محدد محصور في إطار القصة التي تكتبها.
وما دمت قد ادخلت فيها من بين عناصرها زهرة او طائرا أو منضدة فينبغي لك ان تحددها,, وليست هذه التحديدات مطلوبة هنا (لخاطر سواد عيونها) بل لان بعضها يتركب على بعض,, ويصب بعضها في بعض,, حينئذ تكتسب قصتك طابع الصدق,, اي الايهام بواقع,, فالفن ليس هو الواقع,, بل ايهام بواقع,, وليس من التناقض بالطبع القول بأن هذا التحديد اذا لزمك مرة وأنت تقتبس من الواقع منضدة موجودة فعلا رأيتها انت بعينيك,, فإنه يلزمك مائة مرة حين تصف منضدة من صنع خيالك,, لانك هنا أنت الصانع,,
لكن - قلت معارضا - ألا يتناقض هذا القول مع مقولتك بأن الفن هو رفض تلقى الواقع وتقديمه في صورة تقريرية؟
أجاب مواصلا بنفس الحماس: صِدق العمل الفني هنا لا يرتبط بزمان او بمكان، لان ارتباطه بقيود الزمان والمكان يجعل منه ظاهرة تسقط بسقوط اسبابها وملابساتها التي ارتبطت بها,, وبراعة الكاتب هنا تتجلى في الوصف، والحوار، والسرد، والحوار الداخلي,, فهذه هي - كما سبق وقلت لك - اوراقه التي يختار منها، وهنا تكمن الصنعة، لأنه لا فن بلا صنعة، وهي صنعة مختفية بالطبع وتتعالى عن الصنعة التقليدية,, لكن في النهاية العمل الادبي او الفن له ايضا صنعته، وهي التي تتجلى فيها براعة الاديب ويختلف فيها كاتب عن كاتب .
لا يزال حماسي لمحاروته لم يفتر,, يمضي بنا الوقت وأرى الاجهاد وقد بدأ يفرض نفسه على ملامحه، فأضغط اسئلتي، لكن صبره يشجعني على المواصلة، فأقول: ظهر أخيرا ما نسميه بالاسلوب التحدثي الذي يسقط الوصف من حسابه,, ثم تلاه اسلوب الموال بتقديم الفاعل على الفعل,, وكلها محاولات في الاسلوب,, أو في الشكل,, ما هو مستقبل هذه المحاولات وأشباهها في نظرك؟
قال : أعتقد ان اسلوب الموال هذا بدأ مع بداية اهتمامنا بالفنون الشعبية وتمحكنا فيه، والانجذاب مرة أخرى الى كلام الاغاني الشعبية والموال, ومن هنا كان اتجاه بعض شباب القصة القصيرة الى اتخاذ اسلوب الموال طريقا لهم,, ولا بأس بهذا على الاطلاق، وإنما المهم هنا ان هذا الاسلوب قد يصلح في قصة قصيرة,, لكن هل يصلح لرواية,, طبعا لا يصلح,,, إذن انت ترى انها مسألة مرتبطة باختيار الشكل للموضوع ذاته,, فكل موضوع له شكل، ويجب ان نبحث عنه,, هذه المدارس التي ذكرتها وغيرها كثيرة,, ومن الفائدة ان يحدث هذا، فالقارئ الآن يضيق ذرعا بأسلوب المنفلوطي والرافعي,, وعندنا اليوم ادباء مثل إسماعيل ولي الدين يعتمدون على اللمسات السريعة كضربات فرشاة الالوان,, بل ان في بعض اعمالهم شخصيات تظهر وتختفي، وإذا سألتهم عنها يجيبون انهم هكذا رأوها، ولا مبرر لاستمرار شخصية إذا ظهرت في العمل ثم اختفت، هذه طبيعة العصر الذي نعيش فيه: الضيق من السرد,, من موالاة المعاناة,, المهم هو الصدق في التعبير عن النفس,, وأن ينجح الكاتب في ان يُحدث هذا التاثير في نفس القارئ,, وأنا أحب هذا النوع من الكتابة - لكن بشرط العمق والدراية باللغة - اكثر مما هو موجود حاليا حتى يصبح النسيج ثريا,, وانا دائما اشبه العمل الفقير بالحصيرة ليست سوى عودين من قش مجدول، لها سطح، ولكن ليس لها عمق,, اما العمل الثري فهو - ان جاز لنا التعبير - كالسجادة العجمي، لها عمق، وفيها مئات العقد والغرز المختفية تحتها .
** قلت : هنا سؤال يفرض نفسه: كيف يمكن النهوض باللغة اذا كانت هي الاساس الذي ينبني عليه اي عمل ادبي ثري؟
- أجاب قبل ان أتم سؤالي: المسئولية هنا مسئولية الاديب نفسه، وعليه ان يبحث كيف يمكن ان تعبر اللغة عما يجيش داخله,, لابد إذن ان يكون عنده بصر وإحساس باللفظ، وايقاع اللفظ، وصلات الالفاظ بعضها ببعض,, لابد ان يحفظ الشعر القديم عن ظهر قلب,, لابد ان يقرأ القرآن ليطلع على كنوز اللغة فيه,, انا نفسي كنت في زيارتي الاخيرة لفرنسا اسير في الشوارع أردد أبياتا من الشعر الجاهلي أمتع نفسي بسحر لغتها .
قلبت أوراقي لحظات,, توقفت عند كلماته,, رحت اعيدها عليه,, قلت: الفن عندك هو وليد الدهشة,, ودهشة الفنان للقاء الحياة كل يوم دليل على تجددها ونفي لرتابتها,, وبدون هذه الدهشة يفقد الفنان نضارته,, ويستحيل الجديد بين يديه مألوفا,, في حين يتحول المألوف - مع الدهشة - بين يديه جديدا,.
سرح بعينه مسترجعا السنين: هذا كلام قلته منذ عشرين عاما,, وما زلت اقوله,, وما زلت مصرا عليه,, ولو اتيحت لي الفرصة مرة اخرى لقوله فلن أمل من تكرار قوله مرة ثانية وثالثة .
(*) عن كتاب (يحيى حقي عازف الكلمات).
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
فروسية
أفاق اسلامية
عزيزتي
المزهرية
الرياضية
تحقيق
شرفات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved