عندما يبني انسان منا سكناً خاصاً او مصنعاً او عمارة استثمارية او نحوها من العقارات الخاصة فانه يحرص كل الحرص على دقة العمل ويقوم بمتابعة كل خطوة من خطوات البناء والانشاء والتنفيذ ويجتهد في ذلك ويبحث عن افضل الشروط والاسعار لانه يصرف من جيبه ومدخراته سواء كانت محدودة ام ممدودة فالمال عند اهله نفيس حتى قيل ان رأس المال جبان لأن صاحب الأموال قلما يغامر بطرح امواله او جزء منها في مشاريع غير مدروسة وان هو فعل ذلك فإنه يكون ممن لا خبرة لهم ويجني عادة الخسارة والندم اما القاعدة فهي الحرص على الحق الخاص من مال او عقار او اثاث، ولذلك فان الذي يبني لنفسه سكناً او مصنعاً او عمارة او مؤسسة يضع كل ريال في موضعه ويحاسب ويراقب ويتابع كما سلف القول حتى يضمن عمراً افتراضياً مناسباً لما شيده وبناه، ولكن هذه الروح المتفانية لا نراها متحققة بالقدر نفسه في المناقصات العامة الحكومية وكأن معظم الأموال العامة اموال سائبة لا راعي لها يرعاها الرعاية المطلوبة فنحن نسمع عن مناقصات انشاء او ترميم بملايين الريالات مثل انشاء مبنى حكومي او مستشفى عام او مدرسة او معهد او تنفيذ طريق او جسر الى آخر القائمة، ونلاحظ ان الدولة لم تقصر في اعتماد المبالغ المخصصة للمشروع بل ان سعر التنفيذ للمتر الواحد في المشاريع العامة يبلغ احياناً ضعفه قياساً بالعمل نفسه في المشاريع الخاصة، فالشيء الذي يكلفنا الف ريال للمتر يكلف الدولة ضعف هذا المبلغ وربما اكثر من ذلك مع ان المواصفات العامة وحتى الخاصة للمشروع الحكومي قريبة او مساوية للمشروع الشخصي بل قد تكون احياناً اقل شأنا ومستوى، ومع ذلك كله فان الذي يحدث للاسف الشديد هو ان العديد من المشاريع الحكومية تظهر فيها عيوب بيّنة بعد سنوات قليلة من استلامها حتى يصل الأمر الى الحد الذي تنشر فيه وسائل الاعلام المقروءة تحقيقات صحفية مصورة عن تلك العيوب بعد ظهورها ماثلة للعيان، ولا سيما اذا كان وجودها يهدد حياة السكان او المستخدمين لها او ان العيوب تقلل من حجم الاستخدام او تعرقله، وكم قرأنا في الصحف عن مدارس حديثة البناء اخليت من الطلاب بعد سنوات قليلة من استخدامها ومن تشققات في مباني الاسكان وعن سوء تنفيذ لمرافق عامة صرف عليها مئات الملايين من الريالات وهذا الوضع يدعونا بالتالي الى التساؤل عن هذا الأمر وهل وجوده كان بسبب عدم الحرص على المراقبة والمتابعة للتنفيذ ام لان الجهة المرسّية للمشروع قد اختارت الشركة الاقل كفاءة او امانة ام لان في المسألة خللاً اكبر تستفيد من وجوده اكثرمن جهة ويتضرر من حصوله الوطن وابناؤه ام لغير ذلك من الاسباب ام لها كلها مجتمعة في وقت واحد!.
ونحن نعلم ان تحقيقات تجري بعد ظهور مثل هذه العيوب والمخالفات وربما تكون هناك جزاءات مادية او معنوية على المتسببين بشكل مباشر او غير مباشر فيما حدث ولكن واقع الحال يؤكد ايضا ان ما تم اتخاذه لم يشكل رادعاً لهذه المخالفات بل ربما شجع على زيادة حجمها وامتداد رقعتها حتى شملت معظم المشاريع المنفذة بما في ذلك سفلتة الشوارع والترصيف والانارة وتأمين الاجهزة والاثاث والمواد التموينية الاخرى.
ان الأمانة جزء لا يتجزأ فاذا وجدت انساناً لا يقيم وزناً لامانة العمل ولا يلتزم بالدوام الرسمي الذي يأخذ عليه الأجر دون ان يحاسب على العمل، فان مثل هذا الانسان قد تتطور به الاحوال نحو الاسوأ فتجده لا يقيم وزناً للمال العام ويعتبره مالاً مشاعاً يمكنه ان يستلب منه شيئاً او يهمله حتى يتحطم او يساهم في تحطيمه كما نرى ذلك عند الاستخدام السيىء للمرافق العامة ولعل بعضهم يطبق بكفاءة تامة المثل الشعبي القائل مال ليس مالك جُرَّ عليه الشوك اي لا تأبه بأن تمزقه شر تمزيق وتحطمه تحطيماً ما دمت لم تدفع فيه قرشاً واحداً سواء كان يخص الدولة او شخصاً آخر او جهة العمل من شركة او غيرها كالذي يُسلَّم من عمله سيارة للاستخدام الرسمي ووفق انظمة القيادة والسلامة ولكنه يستخدمها لغير ذلك ويركض بها في الشوارع وفوق الأرصفة ولا يتفقد زيتها او انوارها حتى تخرب وتصبح حطاماً ثم يطالب بأخرى والشيء نفسه قد يحصل للاثاث المكتبي او للحدائق العامة من قبل بعض الافراد ولكن التجاوز يتأكد ويبدو عظيماً عندما يكون مرتبطاً بعقود وعهود ومواصفات بملايين الريالات وله آثار سلبية على مستوى ما سيقدم من خدمات.
ان من مصلحة الأوطان ان تربي أبناءها على احترام المال العام والمحافظة عليه انشاءً او استخداماً والدهماء في حاجة الى القدوة اكثر من حاجتهم الى الموعظة وفي نهاية الأمر فان من اهم اساليب المحافظة على المال العام محاسبة من يضيعه او يأخذ منه بغير وجه حق وهذا هو اعظم ما في هذه المسألة!.
نعم,, رحم الله أيام المطهِّرين!
ترحّم الزميل الكاتب فهد السلمان في مقال نشره مؤخراً بجريدة الرياض على ايام المطهّرين وهم الممرضون الشعبيون الذين كانوا يقومون بختان الصبيان بطريقة شعبية حتى لا نقول بدائية وذلك في معرض تعليقه على خطأ طبي ارتكب ضد طفل صغير خلال عملية ختانه مما ادى الى بتر جزء من عضوه التناسلي والى احتباس بول الغلام ودخوله في دوامة عمليات ترقيع واصلاح للعضو لعله يصلح ويعمل بعد حين!.
وما علق عليه الزميل السلمان باسلوبه الشيق الذي عرف به ليس الحادث الأول الذي يقع في مجال الختان وربما لن يكون الأخير فقد ابتليت المستشفيات والمستوصفات بجراحين واطباء انخفض مستواهم حتى انهم لا يجيدون عملية الختان فنسمع بين حين وآخر عن ضحايا لهم في هذا المجال من صغار السن وقد سبق لي ان قرأت عن طبيب ختن غلاماً ثم خيّط خطأ مجرى البول ووضع قطناً وشاشة على موضع الجراحة فأخذ الغلام يصيح واهله يفسرون الأمر بأنه من آلم الجراحة الخاصة بالختان، بينما كان المسكين يصرخ ولا ينام لان بوله محبوس في مثانته الصغيرة، وعندما انتفخت بطنه من الاسفل وكاد يهلك اكتشف طبيب آخر الخطأ وفك الخياطة الخاطئة ونجا الغلام من الموت تسمماً بالبولينا المترسبة في الدم!.
لقد كان في حارتنا الصغيرة مئات الغلمان والفتيان كلهم تطهروا عند المطهِّرين ولم نسمع بحمد الله ان احدهم فقد جزءاً من آلته بسبب الختان وكذا الأمر في بقية الاحياء والمدن فما بال بعض اطباء هذا الزمان يقطعون ويخربون الآلآت حتى اصبح الواحد منا عندما يحمل طفله للختان يفعل ذلك وقلبه يرفرف مثل الحمامة من شدة الخوف ولسانه يلهج بالدعاء ان يحمي وليده من اخطاء العملية؟!.
وأخيراً فإن من نعم الله علينا ان الجزء المقطوع من آلاتنا لا ينمو مجدداً كالأظافر على سبيل المثال ولذلك لا يختن المرء الا مرة واحدة في العمر والا لكان هناك الآلاف الذين يعيشون بقية حياتهم بنصف آلة وعندها لن تنفع معهم حتى الفياجرا في مثل هذه الحالة!!.
الشعراء والصحفيّون والغاوون!
يقال ان الشاعر في الماضي كان يؤدي ما تؤديه الصحافة والاعلام في العصر الحاضر، وهذا القول صحيح بنسبة كبيرة خاصة اذا ما قارنا بين بعض الصحف الصادرة في العالم الثالث، وما تقوم به من تزييف للوعي العام ونفاق وتزلف مقيت للسلطة وبين ما كان يفعله الشعراء في تلك العصور وهم يقفون بين ايدي الحكام ليضفوا عليهم من الاوصاف والمعجزات ما يحولهم الى كائنات خرافية ويجعلهم يهتزّون طرباً وتكون النتيجة آلاف الدنانير المنهمرة في جيب الشاعر النحرير !.
وقبل ألف عام تعرضت اطراف مصر لموجة من الجفاف بسبب انخفاض مستوى نهر النيل وقلة الأمطار وعدم قيام الوالي بعلاج الأمر عن طريق شق الترع او بناء السدود التي تحفظ ماء نهر النيل وتصريفه لمصلحة الاراضي الزراعية التي اهلكها واهلك اهلها الجفاف، وبدل ان يأتي من ينصح الوالي بما يجب عمله لانقاذ البلاد والعباد، جاءه شاعر ليفسر له ظاهرة قلة الغيث بطريقة عجيبة عندما قال
ما قصّر الغيث عن مصر وتربتها طبعاً ولكن تعدّاكم من الخجل !! |
هكذا إذن!,, لقد اراد هذا الشاعر ان يريح الوالي من عناء التفكير في شح الأمطار وما ينتج عنه من مضار تمس حياة المزارعين ففسر شح الأمطار بأن الموضوع لا يتعدى كون السحب قد مرت على مصر فلم تمطر لأنها خجلت من حضرة الوالي او العمدة!.
وبطبيعة الحال فان مولانا الوالي قد اكتفى بما اورده الشاعر من تفسير لظاهرة شح الامطار ومد رجليه وامر بصرف مكافأة للشاعر تاركاً الناس يعانون من آثار الجفاف فما ذنبه هو اذا كانت السحب قد تعدت سماء مصر خجلاً من طلعته البهية؟!.
واذا كان الشعراء يتبعهم الغاوون كما جاء في السورة القرآنية التي تحمل اسمهم فإن بعض الصحفيين لا يحتاجون الى غاوين يتبعونهم، فالغواية موجودة في قلوبهم ولا يحتاجون الى مصدر خارجي يعلمهم كيف تكون الغواية والتزييف وقلب الحقائق في كل زمان ومكان!.
على ان الاستثناء الذي ورد بالنسبة للشعراء في القرآن الكريم والمقصود به الذين آمنوا يمكن ان ينطبق ايضاً على الصحفيين من اصحاب المبادىء الفاضلة الذين لا يوظفون اقلامهم إلا لخدمة المصلحة العامة ولكن عددهم ضئيل وقليل مما يجعلنا نخشى عليهم من الانقراض بسبب استحكام المادة في النفوس وتفريط معظم الناس في المبادىء سعياً وراء منافع شخصية بغض النظر عن الوسائل المستخدمة للحصول على تلك المنافع.
ان كثيراً من المصالح الحيوية في عالمنا الثالث يمكن ان تسير بشكل حسن وتساهم في نهضة وتنمية بلدان ادركها الفقر وعمّ فيها الفساد الاداري، لو ان الصحافة استطاعت ان تقوم بدورها الحقيقي في الاصلاح والتقويم والتقييم ولكن هذا الأمر لم يحصل بالشكل المطلوب في العديد من الدول حتى الآن للأسف الشديد.